Thursday, August 20, 2015

وانس آبون آ تايم في عزبة المكسيك



لركوب الميكروباص وترك سيارتك سبع فوائد.. اعرف منهم فائدة واحدة، وهي إنه يمكنني الفرجة من الشباك، حتى في أحلك أوقات الزحام المروري.
على كوبري أكتوبر يجري الميكروباص أو يتهادى، لا يفرق الوقت معي غالبا، لأني أقطعه في مشاهدة تطور العمل في أعمال تطوير مركز شباب الجزيرة (أعرف ركاكة الجملة، لكنها الصيغة المعتمدة بالصحافة المصرية)، أشاهد كيف تم تقسيم ملاعب الكرة الواسعة المفتوحة إلى ملاعب خماسية ذات أسوار، الأرض ذات النجيل الطبيعي المنحول تتحول إلى ترتان ونجيل صناعي، تختفي فرق العيال الذين كانوا يلعبون بحماقة تحت شمس الظهيرة، الآن الملاعب اللامعة تنتظر مستأجرين بالساعة.. إنه التطور.
وسط الملاعب تم في الماضي اقتطاع أرض للهيكل الحديدي العظيم؛ أعلى سارية علم في العالم التي تم بناؤها في 2011 بتكلفة 27 مليون جنيه. لم يعرف أحد وقتها غرض بنائها، وقيل إن هناك أهداف سرية لا يمكن السؤال عنها، وبعد أن تدلى العلم وتآكل، تم تفكيك الساري المعدني في 2014 والتبرع بالحديد الخردة لصندوق تحيا مصر. في ميدان التحرير تم رفع ساري آخر أصغر وأكثر قبحا، حيث أتى الساري للميدان على عربتي كارو، ولقد انتزعت السعودية لقب أعلى سارية في العالم في سبتمبر الماضي.. إنها قصة موحية فشخ عن حال الدولة المصرية.
أتذكر قبل الثورة كيف كان الصحفي الرياضي/ضابط الاحتياط السابق إبراهيم حجازي يشن حملة ضد بناء فندق على قطعة أرض في الحد الغربي لمركز الشباب، كما شن حملة شعواء ضد رجال الأعمال الذين حاولوا بناء جراج سيارات تحت أرض المركز.. اللعنة على رجال الأعمال الذين يسعون لحرمان الشباب الفقير من الملاعب المفتوحة. لا أعرف موقف الأستاذ/النقيب حجازي الآن، رغم أن له برنامجا تليفزيونيا كوميديا رائعا، وآخر حلقة شاهدتها كان يطالب بإجبار الرياضيين المشتبه في وطنيتهم على التعزية في شهداء القوات المسلحة (تخيلوا طوابير الخونة وهم يقولون عبارات التعزية تباعا ليتم القبض على هؤلاء الذين لا تبدو تعزيتهم مفتعلة.. كوميدي فشخ)، ولهذا لا أتوقع منه الكثير في موضوع منهج التحديث العمراني العسكري الذي يجري في نفس البقعة التي دافع عنها بدماء قلمه.
منظر الملاعب اللامعة جعلني أتذكر عزبة المكسيك.. في منطقة الزيتون حيث نشأت، لم يكن الحي مدينيا بالكامل، كانت هناك أرض الشونة، وهي أرض خراب شاسعة تابعة لشركة الصوامع، على السور الشرقي لأرض الشونة كانت تقع عزبة المكسيك، ولا أعرف سر التسمية حتى الآن.
في يوم ما سأشرح لكم ما هي العزبة، لكن المكسيك لم تكن عزبة حقيقية لمن يعرفون معناها، كانت مجرد صف واحد من البيوت الطينية المبنية بوضع اليد على قطعة صغيرة من أرض الشونة، وكانت في مواجهة مدرستي الابتدائية، لهذا كان أطفال العزبة زملاء لي في أغلب الأوقات.. لم تكن عزبة المكسيك تتمتع بمياه الشرب ولا الصرف الصحي، وكانت الكهرباء غالبا مسروقة، ولهذا كان الزملاء يستخدمون حمام المدرسة في أغلب الأيام (هؤلاء الذين لم يتعلموا في المدارس الأميري لن يتخيلوا حتى كيف كانت حمامات المدارس في الثمانينات).
مشكلة عزبة المكسيك أنها كانت تبدو مثل الدمل في جبين الحي.. كانت لدينا عزب أخرى ذات أزقة لا يمكن أن يسير بها شخصان متجاوران، لدينا خناقات دموية بين العائلات وذبح في وضح النهار، كانت لدينا بيوت ذات طرانشات وأطفال يسقطون في البالوعات، وعندما تهطل الأمطار فقد تحتاج للخوض بالمياه التي تصل إلى خصرك (حدث هذا لي وكنت سعيدا وقتها).. كل هذا كان موجودا، لكنه كان كان مختبئا في بطن الحي، لكن عزبة المكسيك كانت في واجهة أكثر المناطق الواعدة عقاريا.
كم مرة أزيلت عزبة المكسيك؟ لا أعرف. كانوا دائما يعودون بعد الإزالة، يأتون ويضعون أشيائهم القليلة كأنهم ينتظرون شيئا ما، ثم بالتدريج يتغلغلون في مساحتهم القديمة.. مع الوقت أصبحت المنطقة أكثر ثقلا في الميزان العقاري، ظهرت عدة أبراج حولها ولم يعد المنظر مقبولا، وكان الحل في أن يقوم الجيش بإنشاء أحد النوادي التابعة له هناك، بعدها لم يجرؤ أهل العزبة على العودة مرة أخرى، وارتفعت الأبراج حول النادي.
الحقيقة أن أهل الحي كانوا سعداء بالنادي، فلأول مرة أمكنهم التمتع بخدمات رياضية، لأنه لا توجد نوادي بالحي كله سوى نادي خاص بشركة المياه ولم يكن متاحا لنا، الحقيقة أيضا أنني لا أذكر هذا لكي أبدو متعاطفا مع أهل العزبة البسطاء، ما يهمني هو قصة التطور ذاتها والثمن المدفوع بها، عندما أمر من هناك الآن وأرى طوابير الأمهات في رحلة اصطحاب أطفالهن لتمرين الكاراتيه في نادي الطلائع.. أتذكر أن عشرات العائلات تمت إزالتها من أجل هذه الميزة، أو هذا التطور.. أتذكر زملائي البائسين، وأتذكر سؤالا كان يؤرقني وأنا طفل: ماذا لو خلقني الله كأحد أطفال العزبة؟
أشاهد أرضية الترتان الناعمة وأقول إنه التطور كما يراه العسكر، أتذكر عندما كنت مجندا بالجيش وكيف كان قائد سريتنا يفتخر بأنه قام بسفلتة أرض السرية بالكامل، كان يظن وقتها أن كل قائد سيأتي من بعده سيتذكر أنه من فعلها، لكن في الحقيقة أنه لا أحد سيفعل، مع مرور الوقت كل شيء يصبح عاديا، ثم سخيفا ومبتذلا، سوف يرتخي العلم على الساري ويتمزق، ثم يأتي شخص بعقلية أكثر عملية ويفكك الساري نفسه من أجل أحد المشاريع القومية الواعدة.. إنه التطور كما تعرفون.

No comments:

Post a Comment