Wednesday, April 4, 2012

غرب الزيتون الشرس

كنت عائدا بالزي الميري عندما اصطادني تحت كوبري الحلمية: "رايح فين يا دفعة.. تحريات عسكرية".
من ذاقوا حلاوة التجنيد يعرفون أن التحريات العسكرية هي التوأم الخفي للشرطة العسكرية، الحقيقة أنها ليست خفية تماما، مثل المخبرين الذين يتلطعون على جوانب الشوارع وتفضحهم ملابس لا تناسب الظروف ولا الطقس ولا المكان، ولا هم شخصيا. أكثر ما يفضح التحريات العسكرية حلاقة الشعر، يريدون الاندماج وسط المدنين لكن بحلاقة ملتزمة عسكريا، يريدون أيضا إظهار تفوقهم على أقرانهم المحتبسين في الوحدات، وتكون النتيجة مظهرا يميزه المجندين المنهكين أثناء عودتهم في إجازات قصيرة، كأنك ترتدي نظارة لكشف مصاصي الدماء، تراهم بظلال زرقاء وسط طوفان أحمر، تعبر الناحية الأخرى من الشارع أو تلتزم بمداخل المتاجر والورش (الأحمر الدافئ الكبير)، فهم لا يمكنهم الحركة أو الغوص وسط المدنين.
في الأغلب هم لصوص، يتصيدون العساكر وصف الضباط المخالفين، أو يختلقون مخالفات للسذج منهم، وفي الحالتين الهدف هو حق الشاي التاريخي وإتاوة تجاهل المخالفة.
البصاصون صنف واحد دائما.
الوضع صعب. كنت أحمل مبلغا كبيرا جمعته من زملاء دفعتي لتسديد ثمن استمارات إنهاء الخدمة، ولهذا بادرته بالسؤال عن الكارنيه (وكأني أميز بين الحقيقي والمزور)، وأجبره هذا على الهدوء قليلا معي، كان يتمنى أن يجد معي بعض البانجو، وأوحى لي أنه يريد جوانا لنفسه كبداية للتوريط، لكنه انخرس تماما عندما أشرت إلى حارة ضيقة في بداية شارع الترعة (ضيقة لدرجة أن 3 أشخاص لا يمكنهم المرور منها سويا).. "ساكن هنا". قلت له.
لم أكن من سكان العزبة، لكني أعرف أن لها حدودا وقوانين يصعب على أمثاله خرقها.

انسحب المخبر معتذرا.
اعتدت منذ صغري أن أتجول في حارات عزبة المبيض الضيقة والمتشعبة، وكنت أقيس إحساسي بالاتجاهات بأن أتوغل في شبكة الأزقة عشوائيا ثم أطالب نفسي بالعودة لنقطة معروفة بدون سؤال (الحمد لله غريزة الصياد عندي بخير)، ولم أكن أقلق من كوني غريبا، فقد كان لي هناك أصدقاء كثيرون كسبتهم من المدارس الأميرية الفقيرة التي قضيت بها طفولتي، لكن جوهر المسألة ليس أن تكون ابن العزبة الأصيل، بل ألا تُظهر غربتك فيها، تكفي نظرة استغراب واحدة لكي يحيط بك فجأة عدد من أهل الحارة، بود متوجس. البصاصون دائما غرباء، ولهذا تحتفظ العزب دائما باستقلالها عن الحكومة.
معظم حواري العزب لا تتحمل مرور السيارات، ولهذا تتخلى الحكومة عن إبراز عضلاتها مكتفية ببث الكشافة والبصاصين، وهؤلاء حدودهم واضحة. الغرض هو بناء مستوطنات جديدة لهؤلاء الغرباء عن المدينة، جدران ضيقة تحتضنهم بمعزل عن النظام الكوني المجهول والمتقلب، بانتظار فهم رموزه وإجادتها.
يبدو لقب العزبة ريفيا ولا يليق بالمدن، لكن في حي الزيتون (حيث نشأت) هناك عزبتين كبيرتين هما المبيض وشاهين، الأولى تحدها علامات مدينية أصيلة مثل كوبري الحلمية (الشمال الشرقي) والتروماي القديم (غربا) قبل إلغائه. وتوازيها عزبة شاهين بفاصل هو خط التروماي، بينما يستند ظهرها إلى مصانع الأميرية. ولن يذكر التاريخ عزبة المكسيك (الاسم صحيح وليس له أي مدلول ثقافي أو إثني)، وهي عزبة صغيرة، صف واحد من البيوت الطينية على حافة أرض الشونة (كانت تابعة لشركة الصوامع والغلال)، وعاش أهلها حياة أقرب للريف، بدون صرف صحي أو مياه نظيفة (زملائي في مدرسة "الوحدة العربية" كانوا يأتون "حرفيا" بدون غسل وجوههم)، وبعيدين جدا عن الشوارع التي تتمتع بسطوة الحكومة، بل أن بعضهم كان لا يزال يمتلك المواشي والحيوانات، وكان هناك غيط صغير في الناحية القبلية يزرع بعض الخضروات البسيطة ويعمل أحيانا كمشتل. تم هدم العزبة في موجتين خلال منتصف التسعينات وبداية الألفية، اشترى الجيش أرض الشونة بالكامل وحولها إلى نادي "الطلائع".
طبقا لويكيبديا: العزبة هي مساحة أرض كبيرة تزيد عن الخمسين فدان. وتكون ملكا لشخص معين أو لعائلة، وفي الغالب تكون كل المنازل والبيوت الموجودة في العزبة ملكا لهذا الشخص أو العائلة، وتُستغل هذه الأرض بواسطة هذه العائلة في الزراعة وتربية الماشية، وإداريا تكون العزبة تابعة لقرية معينة أو وحدة محلية، وتتبع الوحدة المحلية مركزا معينا. غير أني رأيت الكثير من العزب غير الريفية، ليس فقط داخل المدن، بل وعلى أطراف الصحراء؛ ففي كل وحدة عسكرية انتقلت إليها كانت هناك دائما عزبة ما تقدم كل الخدمات التي يحتاجها المجندين، بداية من الطعام البيتي الساخن، وحتى المخدرات والدعارة. لقب العزبة هنا يداعب المشاعر الريفية لدى المجندين، وكأن العزبة تقدم لهم قطعة من الوطن. عند انتقالي لسراي القبة شاهدت عزب لا يزيد حجمها عن حارة أو ربع (أبو بكر والشفا).
لم أتوصل أبدا لأصل الأسماء، شاهين والمبيض والمكسيك، لكن من الواضح أن شاهين كان مالكا للعزبة عند نشوئها، ودليلي على هذا هو قربها من الحدائق الملكية القديمة شمال قصر القبة، المنطقة بالكامل كانت مملوكة للحاشية وحاشيتها والتابعين، رغم أن معظم الأرض كانت جيرية وجافة، لكن التربة كانت تزداد رطوبة كلما اتجهنا شمالا ناحية مستنقعات المطرية.
في العزبة الكل غرباء. أقدم السكان أتوا إلى عزب الزيتون منذ 30 عاما مع موجة المصانع التي غزت حي الأميرية، ثم استوطنها الصعايدة الباحثون عن منازل رخيصة في بداية رحلة صعودهم المحمومة من قاع المجتمع القاهري. يصنع الصعايدة بؤر تجمع عائلية ثم تنمو البؤر على أساس قبلي ثم إقليمي، هناك حواري كاملة تشغل كل واحدة منها عائلة واحدة متجانسة، ربما لا يحملون ذات الألقاب، لكنك ستجد هذا الذي أخذ بنت أخت ذاك الذي تزوج من عمة الأول وهي في الأصل بلدياته. شبكة عائلية كاملة تحميهم من اختراق الأغراب، أخطر الأغراب هم هؤلاء القاهريون الذين ضاقت بهم الأحياء القديمة العريقة في بداية رحلة انحدارهم طبقيا، أو الفلاحون القادمون من الضواحي الرطبة في خطواتهم الواثقة بالمدينة، ثم تتكفل سياسة الفرز العنصري بالتخلص منهم، لن يمنعك الصعيدي من استئجار شقة بمنزله، لكنه سيعاملك دائما كأنها منحة منه، وستكون مطالبا ضمنيا باعتباره راعيا وكبيرا لعائلتك الصغيرة وسط أحراش الصعايدة الجافة، تماما كما لو كنت في رحلة للغرب القديم الشرس، وعليك أن تقيم علاقات جيدة من سكانه الأصليين.
تقارب بيوت العزب يجعل الطقوس المنزلية مشتركة لدرجة لا يطيقها أهل المدن الأصلاء. الأصول الصعيدية تنظم مواعيد الطبخ والغسيل والاستحمام، باستخدام كم كبير من السمن لإبراز روح الطعام (هل جربت مرة رائحة ملوخية بالتقلية الثقيلة على الطريقة القناوية؟)، لا تطبخ نساء الصعايدة كثيرا لأن الأزواج فقراء وهم في الخارج طوال اليوم، لهذا عليهن إبراز النعمة الزفرة يوم الجمعة، والنعم الأخرى يبرزنها بإلقاء ماء الاستحمام بكل فخر من الشرفات الضيقة صباح الجمعة، بالتزامن مع غسل الملاءات البيضاء بالماء المغلي والزهرة الزرقاء.
هذه طقوس لا يتحملها عادة المدينيون الانطوائيون بطبعهم، لذلك تنتهي القصة بانتقالهم من حواري الصعايدة إلى حواف العزب، وفي هذا راحة للطرفين، أما الفلاحون فيمكنهم التوصل إلى حلول وسط، وفي النهاية هم يعرفون أن هذا ليس وطنهم. الوطن هناك في الشمال.
ويتميز الصعايدة بتقديس الصلات العائلية والإقليمية، حتى مع تراكم الأجيال، وحتى بعد تكون جيل نصف مديني نصف صعيدي، تظل العزبة فاتحة صدرها الدافئ للمزيد من الصعايدة الخائفين، وعندما تمتلئ بهم حجراتها، يكون هذا وقت بناء مستوطنة جديدة.. نحو حافة المدينة غالبا.