Monday, May 7, 2012

كيف تمشي مثل العبيد؟

مهارة كنت فقدتها منذ زمن واستعدتها مجبرا أثناء مغادرتي اعتصام العباسية قبل دقائق من اجتياح الشرطة العسكرية للاعتصام. وبخلاف باقي المتظاهرين المساكين (وبعضهم ضاع في أدغال العباسية)، كنت أحفظ شوارع المنطقة جيدا بعد 5 سنوات قضيتها في الجامعة هناك، وبيتي يبعد 20 دقيقة سيرا على الأقدام، حتى أني اعتدت المرور على ضريح جمال عبد الناصر لقراءة الفاتحة والدعاء له أثناء عودتي. لكن طريق الخروج الآن يجب أن يمر بعزبة "العبيد".
ككل عزب شرق القاهرة، ظهرت هذه العزبة تحت الظلال الوارفة للقصور الملكية والثكنات العسكرية، لكنها تميزت بالجمع بين الحسنين، ففي شرقها تقع وزارة الدفاع، وإلى جنوبها جامعة "عين شمس" التي يفصلها عن ميدان العباسية خط القطار الحربي.
في البدء لم تكن هناك عباسية، فهذا الاسم جاء من الخديوي عباس بعدما بنى قصره على أنقاض قصر "الحصوة" الذي بناه جده محمد علي، وقد سُميّ بالحصوة نسبة إلى المنطقة نفسها (قبل ابتداع سُنة تسمية الأحياء والمدن بأسماء الحكام)، ثم أمر عباس باشا الأول عام 1851 بإلغاء اسم الحصوة وتعمير المنطقة ليصبح اسمها "العباسية" نسبة إليه.
لم يكن عباس يستريح كثيرا لسكان مصر الأصليين، وإمعانا في تأمين نفسه نشر ثكنات الجيش في الأراضي اليابسة شرق القصر، وكان هذا قرارا استراتيجيا بحتا بحسابات زمنه، فتلك الصحراء شهدت من قبل مرور كل الغزاة الذين أتوا من الشرق (فيما عدا الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت)، وعليها دارت معركة الريدانية التي انتهت بهزيمة طومانباي آخر سلاطين المماليك (هل لهذا سُميّ أحد شوارع الزيتون باسمه مجاورا لشارع سليم الأول الذي قتله وعلق جثته على باب زويلة؟)، وأنشأ عباس أيضا مستشفى الأمراض العقلية في عمق الصحراء، وفي النهاية ارتبط اسم الحي بالمستشفى بشذوذ طباع عباس نفسه؛ يكفيك أن تقول "عباسية" مع تحريك يدك بجانب رأسك لتوصيل هذا التعبير التاريخي المعقد.
وفي عام 1864 اشترى الخديوي إسماعيل قصر الحصوة بمبلغ 250 ألف قرش, وأعاد بنائه ليكون قصرا واحدا على هيئته الحالية التي نطلق عليها اسم "قصر الزعفران"، وقد بُنيّ القصر على غرار قصر فرساي بفرنسا الذي قضى فيه الخديوي فترة تعليمه، وقد طلب الخديوي نقش الأحرف الأولى من اسمه وتاجه الخاص على بوابة القصر الحديدية ومداخل القاعات والغرف، ومازالت النقوش موجودة حتى الآن. سمح الخديوي أيضا لعلية القوم ببناء بيوتهم في الناحية الجنوبية للقصر، وحصل بعضهم على الأراضي بالمجان (ربما ليتحملوا مضارب عرب المحمدي الذي كان لهم سوق مكان الحديقة التي تحمل اسمهم الآن، وأزيل السوق عام 1976)، لكن لم يُسمح لبيوت الكبراء بالاقتراب أكثر من المكان الذي يشغله مسجد "القبة الفداوية" الآن (بناه الأمير المملوكي يشبك بن مهدي لكن الاسم يرجع إلى طائفة اشتهرت بالبطولة في خدمة السلاطين).
صُمم الحي بحيث تحميه الثكنات من غزاة الشرق، وتحميه الحاشية من المصريين الأصليين في الجنوب والغرب، وكان هو النواة التي جاءت منها كل أحياء شرق القاهرة، واحتفظ سكانه الأوائل بذلك الحبل السري بينهم وبين الحاكم، فتطور إلى وجهة للموظفين والمستفيدين وظلت علاقة العطية تربط بين السكان وصاحب القصر، ثم ورثته من باشوات وإنجليز وعسكر، وحتى أعضاء الحزب الوطني الذين كان شرق القاهرة تفاحة طيبة لهم.
وفي عام 1872 أهدى اسماعيل القصر لوالدته المريضة السيدة خوشيار هانم (صاحبة الفضل في بناء مسجد الرفاعي الموجود امام مدرسة السلطان حسن في حي القلعة) كنوع من الاستشفاء، حيث نصحها الأطباء بالهواء النقي لذا بني القصر وسط حديقة مزورعة جميعها بنباتات الزعفران. وظل القصر مجرد مكان سكني حتى هزيمة عرابي عام 1882 ووصول طلائع الجيش الإنجليزي الى القاهرة، فطلب الخديوي توفيق من جدته خوشيار هانم إخلاء القصر لإقامة الضباط الإنجليز، ولكنهم قاموا بالاستيلاء على القصر وطردوا من يعمل به من خدم خوشيار هانم، وبدلا من أن يقيموا عدة أشهر كما كان مقررا، طالت إقامتهم حتى بلغت 5 سنوات.
الثكانات التي بُنيت لصد الغزاة صارت حاضنة لهم، ووزع الإنجليز كتائبهم على ثكنات الجيش المصري في المنطقة، والذي صار تابعا لهم من الناحية الفعلية، وخرب الضباط الإنجليز قصر الزعفران (ليسوا جميعا لوردات راقون يتقابلون في غرفة التدخين كما نراهم بالأفلام)، وما أن أخلوه حتى طلب الأمير حسين كامل سلطان مصر من القائد الإنجليزي أن يدفع تعويضا عن مدة إقامتهم بالقصر 50 جنيها عن كل شهر ولكن لا يوجد ما يؤكد أن الإنجليز دفعوا هذا التعويض.
وفي عام 1908 تحول القصر إلى مدرسة الملك فؤاد الأول الثانوية بالقصر، وزارها الملك عام 1922 وأنشد حافظ إبراهيم وقتها قصيدة مطلعها:
أقصر الزعفران لأنت القصر.
خليق أن يتهدى على النجوم
وفي هذا القصر تم توقيع معاهدة 1936 بين مصطفى النحاس والمندوب السامي البريطاني مايلز لامبسون لورد كيلرن في ردهات القصر, وتم توقيع الأحرف الأولى بين لامبسون والنحاس وقادة الاحزاب على المعاهدة التي تُعرف في المراجع والوثائق الانجليزية إلى اليوم باسم "معاهدة الزعفران" نسبة إلى القصر، ومازالت المنضدة التي تم التوقيع عليها موجودة في مكانها بصالون القاعة الرئيسية وعمرها الآن حوالي 120 سنة.
المنطقة السكنية شهدت تطورا طبقيا، فمع رحيل أصحاب القصر إلى فصر القبة الأحدث، رحلت الحاشية المقربة منهم شمالا نحو حدائق الزيتون، وحل مكانهم أبناء الطبقة المتوسطة، ومنهم ضباط الجيش الذين زادت أعدادهم خلال حرب 1948. ليس غريبا أن معظم قادة انقلاب 23 يوليو كانوا من سكان العباسية والزيتون.
وفي عام 1952 نُقلت مدرسة فؤاد الأول إلى مبنى آخر بالعباسية فحلت محلها إدارة الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن), ثم انتقلت الجامعة تدريجيا الى المقر الجديد بالجيزة، واشترت القصر وزارة الخارجية التي جعلته دارا لضيافة الزوار من الملوك الأجانب.
وفي أوائل عام 1952 تقرر أن يكون القصر مقراً لجامعة "إبراهيم باشا" (عين شمس حاليا), وأخلته وزارة الخارجية ونقلت كل ما به من أثاث إلا أنها تركت الستائر والثريات الثمينة التي قد لا تصلح للاستعمال بعد فكها، وربما هذا هو ما دفع المنتجة السينمائية "آسيا" إلى تصوير فيلم "رد قلبي" بالقصر (1957)، وأطلق "البرنس علاء" (أحمد مظهر الممثل اليافع وقتها) النار من شرفته الأمامية على الضابط الوطني "عليّ" (شكري سرحان) ليسقط في أحضان "إنجي".. تماما في نفس المكان الذي اتخذه العشاق من طلبة الجامعة ملاذا لهم (ياللحب).
تلك كانت جولة واسعة حول حدود العزبة، وتتبقى الجيولوجيا كالعادة لحكي ما لا تقوله كتب التاريخ؛ فالخديوي عباس اختص عبيده الأفارقة بالخدمة في قصره (ومنهم الفريق الذي قتله في النهاية)، ولم يكن حجم القصر يسمح بوجود جناح لتسكين العبيد (حتى أن المطابخ كانت في مبنى مستقل خلف القصر)، وربما مد الخديوي بصره من الشرفة الأمامية فأعجبه منظر الحدائق المنبسطة، واستكثر أن يشوه مظهرها بملحق العبيد، ولم يحب وضعهم خلف القصر حيث المساحة أقل، ثم اكتشف تلك الزاوية في الغرب التي تنخفض فيها الأرض فتصنع خندقا طبيعيا، فأمر ببناء بيوت العبيد هناك بحيث تكون خفية عن ناظريه، وفي نفس الوقت قريبة من قصره وداخل حرمه.
بنى العبيد بيوتهم بالطين اللبن كما يفعل الفلاحون أبناء البلد، وتغيروا مع تغير صفة القصر، صاروا أولاد بلد وصار الخندق عزبة على غرار العزب التي انتشرت بجوار الضياع الأميرية، وجاء خط القطار ليحد العزبة من الغرب، ونشأت محطة "منشية الصدر" فاختفى اسم العزبة وحملت اسم المحطة، ولعل نشاطها في البداية اقتصر على تقديم الخدمات المدنية للعسكر، فهي تقع خلف مقر وزارة الحربية (قبل تغيير اسمها للدفاع "فقط" خلال عهد السادات)، ومع استقرار جامعة "عين شمس" تغيرت الوجهة لخدمة احتياجات الطلبة، فالمدينة الجامعية لا يفصلها عن العزبة سوى خط مترو مصر الجديدة، ونمت احتياجات الطلبة من الطعام البيتي إلى مذكرات الدراسة التي ظهرت لأجلها مراكز طباعة وتصوير سرطانية، وامتد النشاط إلى المقاهي ومحال العطور ومستلزمات الحجاب.
يفخر أبناء العزبة بفريق الكرة في مركز الشباب الذي لا تزيد مساحتها عن 100 متر خلف المدينة الجامعية، ويعتبرونه أفضل فريق في محيط كوبري القبة، لكن ما يثير الاستغراب هو فخرهم باسم العزبة رغم مدلوله السيء. عرفت "فارس" خلال الدراسة الثانية بمدرسة "القبة" البعيدة تماما عن العزبة، وكان ينطق الاسم بفخر ويتركنا نحيله لا إراديا إلى تراث التفوق الجنسي للعبيد السود الأشداء، وربما كان يفعل هذا لصنع مكانة خاصة تحميه من أبناء عزب سراي القبة التي تقع المدرسة بها، لكني وجدت نفس المسمى لدى فتاتين عرفتهما بالجامعة، مع سخرية طبقية سببها أن حواف العزبة تم استثمارها عقاريا (خاصة المنطقة خلف وزارة الدفاع) فتغيرت التركيبة السكانية لصالح الطبقة المتوسطة، بينما ظل القلب القديم على حاله، وصار الاسم يحمل وصمة عكسية، كأنك تقول "هؤلاء هم العبيد.. انظر أنا أبيض البشرة!".
لم يكن "فارس" أسود البشرة، الحقيقة أنني أكثر سمرة منه، وخلال اختراقي اليومي للعزبة في أيام الجامعة، لم أجد أبدا ما يدل على عرق أفريقي للسكان، كانت النسوة العجائز المتشحات بالسواد يستلقين في أي بقعة مشمسة، أو أي ممر هوائي رطب، أو يشعلن نارا للتدفئة في الصباح الباكر، وكلهن يحملن ملامحا عادية هجينة من كل الأصول، تماما مثل كل المصريين.
كطالب جامعي، كان مرحبا بي في أي مكان بالعزبة، فأنا زبون محتمل لكل أنشطة العزبة، لكن مر على هذا 12 عاما، وحسب ما عرفت فإن سكان العزبة كانوا متحفزين ضد المتظاهرين، وبينما أقترب من أول لجنة شعبية عند نفق الزعفران، تذكرت برنامج الدفاع التقليدي الذي اعتدت استخدامه للتماهي مع سكان العزبة:
1- انظر في عيونهم
في كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" ينصح "توماس إدوارد لورنس" (لورنس العرب) أن تنظر دائما للعين بوضوح عندما تتعامل مع سكان الشرق الأوسط، إن هذا بمثابة اختبار كشف الكذب الذي يُظهر مدى ثقتك بنفسك وإذا ما كنت تخفي أمرا ما، لكن قواعد السيادة الذكورية لا تسمح بإطالة النظر لأن هذا يعني أنك تتحداهم في منطقتهم، إذن سأتبادل النظر معهم بشكل مختصر وسريع، وكأني أعطي رسائل مشفرة أنني لست تافها كما أني لا أسعى للمشاكل.
2- لا تغير مسارك
إنها مجاملة جميلة لو قابلت امرأة في طريقك، لكن مع أبناء العزب يكون هذا كفيلا بكشفك، الضعيف هنا من يفسح للقوي، لذا سأحدد مساري بدقة بحيث أمر في فرجة بين اثنين منهم، وإذا أراد أحدهم اعتراضي فليتحرك هو. المدهش أن هذا البروتوكول يتم تنفيذه بلا تفكير منه، ويعتمد على الجينات الذكورية العتيقة لدينا جميعا، لهذا سيحصلون على رسالة لا غرادية بأن هذا الشخص لا جدوى من الترازل عليه.
3- احتفظ بإيقاع خطواتك ثابتا
لا تسرع فجأة ولا تبطئ بلا مبرر. تخيل أنك في قفص للذئاب التي لا يحركها الجوع بل غرائز الخوف والعنف، والحركات المفاجئة لا تفعل شيئا سوى استفزاز هذه الغرائز.
4- أنت لست سائحا
أهل العزبة لا يثير استغرابهم شيء، هي نفس المناظر والبيوت والبشر. إذن هذا ليس وقت التمتع بالمناظر الطبيعية. استخدم عينيك في مسح مجالك الحيوي فقط والمشي على إيقاع ثابت.
5- افتح صدرك
هذه خدعة تعلمتها على شاطئ شعبي بالإسكندرية، في يوم "شم النسيم" والشاطئ يمتلئ بشباب المناطق الشعبية، وكان أحدهم بالغ النحافة لكنه يمشي بطريقة مضحكة فاتحا صدره وكأنه يستفز الجميع، لكن ما أظنه هو أنه اعتاد هذه المشية في ملابسه التي تخفي مبالغته في الأداء، لكن على الشاطئ يبدو أحمق لأنه بدون ملابسه، والمسكين كان يسير هكذا طوال الوقت لأنها وسيلته الوحيدة للنجاة بنحافته هذه.
6- لغة الأطراف
انقباض أصابعك، زاوية الكوع، حركة الذراعين.. كلها لغة جسدية تعكس توترك وخوفك، المشكلة يومها أني كنت أحمل حقيبة الكاميرا، وهي موضوع مثير للانتباه بالطبع، وكنت أغطيها بسجادة صلاة أحملها معي دائما في المظاهرات والاعتصامات، وكان عليّ أن أمسك بحزام الحقيبة وبالسجادة بحيث أخفيها وفي نفس الوقت لا أثير الشكوك. ربنا يستر.
7- ضع الوجه الخشبي
عند آخر لجنة شعبية كان الشباب قد وصلوا لمستوى من الإثارة جعلهم يهددون على مسمع مني بأنهم على استعداد لذبح المعتصمين. تعرضت لموقف مشابه ليلة 31 يناير في لجنة بحمامات القبة عندما حاول شاب أن يفتش حقيبتي إمعانا في دور أمين الشرطة فدفعته ونهرته حتى جاء زملائه ووبخوه، لكن ذلك كان مراهقا ارتفعت لديه هرمونات التستوستيرون والأدرينالين، ويعرف أصحابه أنني ذاهب للجزء الخطر من سراي القبة وليس من مصلحتهم إثارة المشاكل معي (حيث كانوا يظنون أن عزبة الشفاء ستهجم عليهم بينما كانت عزبة الشفاء تتمترس ضد عزبة المبيض التي بدورها كانت تتوجس من المطرية). هؤلاء الذين أدخل عليهم الآن في منطقتهم، وهم فخورون بتراثهم، كما أنهم آخر لجنة ويظنون أنفسهم في دور "ليبرو" كرة القدم، كان أحدهم يلقي كلامه أمامي، فتعاملت وكأني غير معني، رميت له النظرة المشفرة، ونظرت بوجه جامد ناحية زميله، وكأني انتهيت منه ولم أجد فيه تهديدا وبدأت أتفحص التالي.. فعلت هذا وتقدمت إلى اللجنة.