Thursday, August 20, 2015

التاريخ السري للقنبلة

يوم الجمعة الماضي شهد حيّنا انفجار 5 قنابل، شهد شقيقي الأصغر 3 منها، وقبلها بأيام تم اغتيال ضابط شرطة وانفجرت قنبلتان بجوار منزل شقيقي الأوسط.. لقد صار الأمر قريبا جدا، هذا هو لسان حال الجميع عندنا الآن.
لكن العنف لم يكن بعيدا عنا، فخلال فترة التسعينيات كانت التوترات الطائفية في ذروتها بالمطرية وعين شمس والأميرية، وكلها أحياء تحيط بحي الزيتون حيث أعيش.. كانت الأحوال لدينا ألطف في العموم، لكن هذا لم يمنع وقوع حادث انتقامي له طابع طبقي وطائفي خلال نفس الفترة، عندما قامت مجموعة إرهابية بسطو مسلح على عدد من متاجر الذهب مملوكة لأقباط، كانت مذبحة راح فيها عدد من العاملين بهذه المتاجر، وقضت فعليا على سمعة الزيتون كثاني تجمع للجواهرجية بعد سوق الصاغة.. بعد الحادث قامت الداخلية بتعيين عدد من أفراد الأمن لحراسة المتاجر، ومع الوقت أضيف هؤلاء الأفراد لقوة العمل لدى الجواهرجية، ابتداءا من الوجبات والمشاريب، وصولا إلى الإتاوات المعتادة، ثم الارتخاء في انتظار الحادث التالي.
وفي 2008 تكرر الحادث مع أحد المتاجر المتبقية، وكان ضحيته 5 أفراد.. لا جديد في الأمر، وفي العام التالي انفجرت قنبلة بدائية الصنع تحت سيارة أمام كنيسة العذراء.. هكذا بدأت الداخلية في الانتباه، وكانت حصيلتهم هي القبض على خلية الزيتون الإرهابية، وفي قضية تحمل نفس الاسم، اتضح أن زعيم الخلية هو شخص ذو إعاقة حركية، وبحسب تحقيقات النيابة، كانت الخلية تخطط لتصنيع طائرة بدون طيار، وسيارة تعمل بالتحكم عن بعد، كما خططت لجمع تبرعات من أجل تخصيب اليورانيوم الموجود بالرمل الأسود تمهيدا لصنع قنبلة نووية.. نعم الكلام صحيح!
لا يعرف معظمنا أن ميدان المطرية شهد مواجهات أكثر دموية من ميدان التحرير في جمعة الغضب 2011.. الميدان هو البوابة الوحيدة لكتل سكانية مرعبة كانت السلطة تمارس سلطتها فيها عن طريق المخبرين وتجار المخدرات والعائلات الكبيرة مع نواب البرلمان، وفكرت الداخلية أن قتل عدة أشخاص في المطرية سيفيد في تأديب هؤلاء العصاة وأن الأمر سيمكن تغطيته، لكن القتل لم يفد في اليوم، وبحلول الليل كان مبنى قسم المطرية القديم تلتهمه النيران، وكذلك مجمع الأميرية، وتمت مطاردة رجال الشرطة في الشوارع، ويُحكى أن العقيد “وائل طاحون”، الذي تم اغتياله الأسبوع الماضي لجأ لأحد المساجد، واضطر لاستعارة ملابس إمام المسجد من أجل الهرب.
في الزيتون، تكرر الأمر بشكل روتيني يليق بمنطقة هادئة ليس لها باع في العنف ضد السلطة، تم إحراق قسم الزيتون جزئيا وتحرير المسجونين به، ربما لأن الأهالي سيشعرون بأنهم أقل من المناطق المجاورة، وأيضا لتسهيل مهمة تسريب محتويات مخزن السلاح وبيعه، وفي الأيام التالية أصبح القسم نصف المحترق مزارا سياحيا.
كان الخطر مستمرا في الاقتراب بدون أن نشعر، خلال عامين من الثورة قُتل شابان من الشارع الذي أسكن به، وفي يناير 2014 كانت هناك مذبحة أخرى بالمطرية راح ضحيتها أكثر من 40 شخصا، كثير منهم تم تقييد وفاته كانتحار، ولهذا سيظل العدد غير دقيق، منذ 30 يونيو 2013 قُتل أكثر من 120 شخصا من المطرية وحدها، سواء في مواجهات مع الشرطة أثناء مظاهرات الإخوان، أو بهبوط حاد في الدورة الدموية بقسم المطرية! الأعداد غير دقيقة لنفس الأسباب، وهي لا تشمل قتلى الأحياء الأخرى الذين سقطوا في المطرية.
منذ عدة أشهر استقلت المطرية حرفيا عن سلطة الدولة القمعية، حدث هذا لعدة ساعات، بعد مواجهات شاركت فيها الدبابات والمدرعات العسكرية، وفي الصباح التالي ذهب الناس لأعمالهم وخرج أصحاب المحال لتنظيف الأرصفة من آثار الاشتباكات.
الآن الناس عندنا مندهشون لأن أصوات القنابل أقوى مما كانوا يتخيلون. بالفعل تبدو كل الأمور السيئة أقل من حجمها إذا فكرت أنها تحدث للآخرين.. يوم الجمعة الماضي سمع فتى صغير الأهالي يحذرونه، ثم وجد نفسه محاطا بأهله في المستشفى، لم يسمع حتى صوت الانفجار ولا أحس بوهجه.
تنتهي الكثير من الأمور بالاعتياد، بعد ساعات من تفجيرات الجمعة، كنت أمر هناك، الحياة عادية بعد انفجار القنابل، وفكرت أنه عندما تصبح الانفجارات أمرا يوميا اعتياديا، وقبلها مذابح متكررة مرت كأنها سحابة صيف، فإنك لن تدرك أبدا تحذيرات القدر فيما قبل الكارثة.
يتعامل المجتمع مع يوم جمعة الغضب كأنه حدث ميلودرامي غير مبرر وبلا مقدمات وتحذيرات.. في السنوات السابقة كان يمكنك ملاحظة تصاعد العنف المجتمعي والجنائي، أتذكر حادثة سائق الميكروباص الذي دهس قاضي سابق في مشادة بالشارع.. العبرة على قارعة الطريق لمن يعتبر، عام 2011 بدأ بتفجير كنيسة القديسين ومحاولة الدولة لاستثمار الحادث في حصد تأييد الأقباط، وانتهى بمذبحة ارتكبتها نفس الدولة من أجل إخراجهم من معادلة القوى المحتجة ضدها.
لن تكون هناك ثورة لطيفة قادمة.. يمكن بناء أفق سياسي فوقها.. فشلنا وتهافتنا في عامين ونصف هو ذكرى سيئة تعلم المجتمع منها، والآن نعرف كلنا أننا نعيش في دولة فاشلة في إدارة شؤون المجتمع وتفضل تسميم مياهه عن محاولة إصلاح نفسها أو حتى الاعتراف بالخطأ، بمؤسسات طائفية منشغلة حتى أسنانها بالصراع من أجل مناطق النفوذ والمصالح الذاتية.
لم تعد الانفجارات غريبة، ثم ماذا بعد؟

وانس آبون آ تايم في عزبة المكسيك



لركوب الميكروباص وترك سيارتك سبع فوائد.. اعرف منهم فائدة واحدة، وهي إنه يمكنني الفرجة من الشباك، حتى في أحلك أوقات الزحام المروري.
على كوبري أكتوبر يجري الميكروباص أو يتهادى، لا يفرق الوقت معي غالبا، لأني أقطعه في مشاهدة تطور العمل في أعمال تطوير مركز شباب الجزيرة (أعرف ركاكة الجملة، لكنها الصيغة المعتمدة بالصحافة المصرية)، أشاهد كيف تم تقسيم ملاعب الكرة الواسعة المفتوحة إلى ملاعب خماسية ذات أسوار، الأرض ذات النجيل الطبيعي المنحول تتحول إلى ترتان ونجيل صناعي، تختفي فرق العيال الذين كانوا يلعبون بحماقة تحت شمس الظهيرة، الآن الملاعب اللامعة تنتظر مستأجرين بالساعة.. إنه التطور.
وسط الملاعب تم في الماضي اقتطاع أرض للهيكل الحديدي العظيم؛ أعلى سارية علم في العالم التي تم بناؤها في 2011 بتكلفة 27 مليون جنيه. لم يعرف أحد وقتها غرض بنائها، وقيل إن هناك أهداف سرية لا يمكن السؤال عنها، وبعد أن تدلى العلم وتآكل، تم تفكيك الساري المعدني في 2014 والتبرع بالحديد الخردة لصندوق تحيا مصر. في ميدان التحرير تم رفع ساري آخر أصغر وأكثر قبحا، حيث أتى الساري للميدان على عربتي كارو، ولقد انتزعت السعودية لقب أعلى سارية في العالم في سبتمبر الماضي.. إنها قصة موحية فشخ عن حال الدولة المصرية.
أتذكر قبل الثورة كيف كان الصحفي الرياضي/ضابط الاحتياط السابق إبراهيم حجازي يشن حملة ضد بناء فندق على قطعة أرض في الحد الغربي لمركز الشباب، كما شن حملة شعواء ضد رجال الأعمال الذين حاولوا بناء جراج سيارات تحت أرض المركز.. اللعنة على رجال الأعمال الذين يسعون لحرمان الشباب الفقير من الملاعب المفتوحة. لا أعرف موقف الأستاذ/النقيب حجازي الآن، رغم أن له برنامجا تليفزيونيا كوميديا رائعا، وآخر حلقة شاهدتها كان يطالب بإجبار الرياضيين المشتبه في وطنيتهم على التعزية في شهداء القوات المسلحة (تخيلوا طوابير الخونة وهم يقولون عبارات التعزية تباعا ليتم القبض على هؤلاء الذين لا تبدو تعزيتهم مفتعلة.. كوميدي فشخ)، ولهذا لا أتوقع منه الكثير في موضوع منهج التحديث العمراني العسكري الذي يجري في نفس البقعة التي دافع عنها بدماء قلمه.
منظر الملاعب اللامعة جعلني أتذكر عزبة المكسيك.. في منطقة الزيتون حيث نشأت، لم يكن الحي مدينيا بالكامل، كانت هناك أرض الشونة، وهي أرض خراب شاسعة تابعة لشركة الصوامع، على السور الشرقي لأرض الشونة كانت تقع عزبة المكسيك، ولا أعرف سر التسمية حتى الآن.
في يوم ما سأشرح لكم ما هي العزبة، لكن المكسيك لم تكن عزبة حقيقية لمن يعرفون معناها، كانت مجرد صف واحد من البيوت الطينية المبنية بوضع اليد على قطعة صغيرة من أرض الشونة، وكانت في مواجهة مدرستي الابتدائية، لهذا كان أطفال العزبة زملاء لي في أغلب الأوقات.. لم تكن عزبة المكسيك تتمتع بمياه الشرب ولا الصرف الصحي، وكانت الكهرباء غالبا مسروقة، ولهذا كان الزملاء يستخدمون حمام المدرسة في أغلب الأيام (هؤلاء الذين لم يتعلموا في المدارس الأميري لن يتخيلوا حتى كيف كانت حمامات المدارس في الثمانينات).
مشكلة عزبة المكسيك أنها كانت تبدو مثل الدمل في جبين الحي.. كانت لدينا عزب أخرى ذات أزقة لا يمكن أن يسير بها شخصان متجاوران، لدينا خناقات دموية بين العائلات وذبح في وضح النهار، كانت لدينا بيوت ذات طرانشات وأطفال يسقطون في البالوعات، وعندما تهطل الأمطار فقد تحتاج للخوض بالمياه التي تصل إلى خصرك (حدث هذا لي وكنت سعيدا وقتها).. كل هذا كان موجودا، لكنه كان كان مختبئا في بطن الحي، لكن عزبة المكسيك كانت في واجهة أكثر المناطق الواعدة عقاريا.
كم مرة أزيلت عزبة المكسيك؟ لا أعرف. كانوا دائما يعودون بعد الإزالة، يأتون ويضعون أشيائهم القليلة كأنهم ينتظرون شيئا ما، ثم بالتدريج يتغلغلون في مساحتهم القديمة.. مع الوقت أصبحت المنطقة أكثر ثقلا في الميزان العقاري، ظهرت عدة أبراج حولها ولم يعد المنظر مقبولا، وكان الحل في أن يقوم الجيش بإنشاء أحد النوادي التابعة له هناك، بعدها لم يجرؤ أهل العزبة على العودة مرة أخرى، وارتفعت الأبراج حول النادي.
الحقيقة أن أهل الحي كانوا سعداء بالنادي، فلأول مرة أمكنهم التمتع بخدمات رياضية، لأنه لا توجد نوادي بالحي كله سوى نادي خاص بشركة المياه ولم يكن متاحا لنا، الحقيقة أيضا أنني لا أذكر هذا لكي أبدو متعاطفا مع أهل العزبة البسطاء، ما يهمني هو قصة التطور ذاتها والثمن المدفوع بها، عندما أمر من هناك الآن وأرى طوابير الأمهات في رحلة اصطحاب أطفالهن لتمرين الكاراتيه في نادي الطلائع.. أتذكر أن عشرات العائلات تمت إزالتها من أجل هذه الميزة، أو هذا التطور.. أتذكر زملائي البائسين، وأتذكر سؤالا كان يؤرقني وأنا طفل: ماذا لو خلقني الله كأحد أطفال العزبة؟
أشاهد أرضية الترتان الناعمة وأقول إنه التطور كما يراه العسكر، أتذكر عندما كنت مجندا بالجيش وكيف كان قائد سريتنا يفتخر بأنه قام بسفلتة أرض السرية بالكامل، كان يظن وقتها أن كل قائد سيأتي من بعده سيتذكر أنه من فعلها، لكن في الحقيقة أنه لا أحد سيفعل، مع مرور الوقت كل شيء يصبح عاديا، ثم سخيفا ومبتذلا، سوف يرتخي العلم على الساري ويتمزق، ثم يأتي شخص بعقلية أكثر عملية ويفكك الساري نفسه من أجل أحد المشاريع القومية الواعدة.. إنه التطور كما تعرفون.

تسعة أسباب لكي اترك حمامات القبة وانتقل للسكن في العاصمة الجديدة


أعيش في حمامات القبة وعائلتي تسكن بهذا الحي منذ 80 عام أو أكثر.. أنتمي إلى الجيل الثالث بهذه العائلة، وربما يكون أولادي هم الجيل الرابع الذي يستمر موجودا هنا. لا توجد مبررات واضحة لاستمرارنا هكذا، فهو حي نصف هادئ، نصف شعبي، نصف عريق.. إنه حتى نصف عسكري.
مثل أجدادي، تعمدت تفويت فرص كثيرة للخروج من هذا الحي والسكن في منتجعات الصحراء، لكني الآن سأعيد حساباتي، لأن إغراء العاصمة الجديدة لا يمكن مقاومته .



لأنها بدون ميادين للقتل
يشير صديقي إلى ميدان طلعت حرب ويقول إن القاهرة الخديوية صممها فرنسيون، أثرت فيهم الثورة الفرنسية بشكل عكسي، فكرتهم عن الميادين المركزية أنها مكان يمكن من خلاله السيطرة على عدة شوارع بمدفع واحد.. هذا من وجهة نظر أصحاب المدفع، لكن سكان المدن يحبون الميادين لأنها مكان للتجمع والالتقاء، حيث إن المدافع لم تعد سلاحا فعالا.. أصبحت السلطة تكره كل الميادين.
حسنا؛ سنغلق محطة المترو.. سننشئ مدينة جديدة بلا ميادين، سنجعلهم يسيرون لكيلومترات طويلة محاصرين بشواهد إسمنتية عملاقة مغطاة بالزجاج الداكن، يسيرون ويسيرون بدون ميادين يلتقون بها حتى تلحس الشمس عقولهم.. هكذا يتحدث ماكيت المدينة.

لأنها بعيدة بعيدة
ما الذي حدث عندما فكر الثوار في الزحف إلى شرم الشيخ؟ وماذا حدث لقوافل التضامن مع غزة؟
سنمنع عنهم وسائل النقل، سنمنعهم من مغادرة المدن، نوقفهم في الكمائن الصحراوية، نقطع الطرق تماما إذا استدعى الأمر.. في الفراغ خارج المدن، الدولة الرخوة يمكنها ممارسة القوة لآخر مدى، الجماهير المرعبة تصبح مثل حفنة رمال يتم نثرها في الصحراء.
فلنجعل مدينتنا وسط الصحراء، لا تبعد كثيرا عن أملاكنا، قريبة من المنتجعات البحرية، وتتمتع بحماية السلاح.

لأنها مدينة التنوير
لم يكتمل الأسبوع، ثم بدأت المطالبة بأن تكون المدينة للمتعلمين فقط.. هؤلاء الذين يتمتعون بالسلوك الحضاري الذي يجعلهم يكتفون بإنجاب طفلين اثنين لا أكثر، ويعملون في وظائف لامعة تحمل مسميات غامضة وطويلة.. المهم أنها ستكون مدينة محرمة على الواغش الذين لا يتمكنون من استكمال تعليم لن يؤهلهم لأي شيء، وينجبون خمسة وستة وسبعة عيال، هؤلاء الذين تمنعهم أصولهم الضعيفة (قطعيا) من العمل في القضاء والخارجية.
إنها "يوتوبيا" كما وصفها "أحمد خالد توفيق"، لكن لا أحد تخيل أن هناك من سينقلها للواقع.

لأن مدام عفاف في الدور فوق الأرضي
كما يقول أحد الساخرين: ستذهب إلى العاصمة الجديدة لاستخراج ورقة من أحد الأبراج الحكومية الشاهقة.. سيراجع الأستاذ بدوي أوراقك في الدور الـ 57، ثم ستنزل للدور الـ 29 لكي تدفع الرسوم في الخزينة، وتصعد عدة أدوار لكي تشتري ورقة دمغة وتنسخ طلبك وتشتري ملف تضع فيه أوراقك. ثم ستذهب إلى مدام عفاف” لكي تحصل على الختم، في الدور فوق الأرضي.. بالعاصمة القديمة .

لأن الكهرباء لا تنقطع في المدن العظيمة
خلال المؤتمر الاقتصادي، تألقت مدينة شرم الشيخ، تمت تغطيتها بشبكة واي فاي بالكامل. في نفس الوقت، مدينة الشيخ زويد، وهي في سيناء أيضا، انقطعت عنها الكهرباء والاتصالات تماما.
إنه قدر المدن العظيمة، تنقطع الكهرباء في الدلتا بالساعات، وفي الصعيد بالأيام، لكن انقطاعها في حي الزمالك هو حدث خطير يستحق تذمر السكان واهتمام الإعلام، بينما في أحد أبراج العاصمة الجديدة، سيشعر أحد السكان برعشة برد، ويفكر أنه ربما يجب تخفيض درجة حرارة المكيف.

لأنها غالية وستدفع كل شيء للغلاء
إنها الشركات التي تخصصت في المشروعات الفاخرة.. الشركات التي حصلت على مساحات شاسعة بأقل الأسعار.. الشركات التي أشعلت الأسعار ولم تهتم بتباطؤ البيع أو حتى إنهاء مشاريعها.. الحمد لله لأن الشركة التي ستبني العاصمة ليست منهم.
لا يهم إذا كانت الشركة حديثة.. لا يهم إذا كان موقعها الإلكتروني تم إطلاقه قبل المؤتمر بأيام.. لا يهم أن يكون لها مقر أو مشاريع سابقة، ولا يهم أن تكون لها علاقات بمن ينفون علاقتهم بالمشروع.. لن اهتم بكل هذه الهواجس، سأسارع بالشراء، لأن كل حفنة رمال على بعد 50 كيلومتر من العاصمة الجديدة سيصبح لها سعرا، ساشتري ولا أعرف ما الذي ساشتريه.

لأنها قريبة من ولاد العم
في نهاية حرب أكتوبر 1973، وبعد أحداث ثغرة الدفرسوار، وصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس-القاهرة، لم يكن الطريق مفتوحا للعاصمة في الحقيقة، لكن المسافة إلى عاصمتنا كانت أقل من 100 كيلومتر.. أقل من طريق عودتهم لوطنهم.. حسنا، سنقلل المسافة لهم، ربما لم نعد أعداء مثل الماضي، فلنأمل أن يكون هذا صحيحا، أو لنعمل على أن يكون الوضع هكذا.

لأنك لا شيء فيها
كنا نجلس على مقهى رخيص جدا، وضع صاحبي الجريدة أمامي، وأشار إلى إعلان لإحدى المدن الجديدة؛ رسم تخيلي للمدينة حيث ترتفع ناطحات السحاب بمركزها وتنتشر المساحات الخضراء على أطرافها.. كانت أزمة صاحبي أنه تخيل نفسه ينزل من الدور الثمانين 5 مرات يوميا، مرتديا الشبشب كعادته، لكي يذهب إلى مسجد صغير وبعيد في زاوية الصورة.. مشكلتي أنني حاولت تخيله هو شخصيا في الشارع، نقطة صغيرة غير ملحوظة وسط عظمة المشهد المهيب، أو الأفضل ألا تكون هذه النقطة موجودة من الأساس.
في أسبوعي الأول بدبي، كرهت تلك المدينة اللامعة، كانت أسبابي بسيطة، أن شوارعها لا تعترف بالمشاة.

 لأن المطار تحت البيت
ستكون العاصمة الجديدة ثورية في تصميمها الحضاري، لدرجة أن الماكيت الترويجي، يضع المطار والاستاد وسط المساكن.. إنها مزايا رائعة لمن يحبون السفر السريع ومباريات الكرة، لكني جربت العمل في أحد المطارات لفترة.. أعرف ما هو صوت الطائرات، وأعرف أن التلوث أصابني بحساسية تنفسية استمرت معي حتى الآن.



ما الذي نسخر منه هنا؟!
تصميم الماكيت الذي يتجاهل أدنى قواعد الهندسة الحضارية والمعمارية؟ أم نسخر من الاستعجال الذي دفعهم لهذا الخطأ؟ أم نسخر من استهانتهم بنا لدرجة أن أي مصمم أزياء بريطاني في دبي، أصبح بإمكانه وضع تصورات لمدننا بكل هذا الجهل والغرور؟ أم نسخر من أن لا شيء في هذا حقيقي وأنه ليس أكثر من ماكيت؟!

Monday, August 3, 2015

عصير قصب مع التنين

نظرة الغل على وجه التنين. شفطة عصير قصب. الحصان خائف من اللسان الملتهب. شفطة قصب. انطباع الرضا على وجه الفارس كأنه يداعب قطة ولن يحشر الحربة في فم التنين. شفطة قصب طويلة. تفاصيل درع الفارس وتطريز السرج. شف... لقد نفد عصير القصب.
بجوار سينما الزيتون في عصرها الذهبي، شمس الظهيرة تخترق محل عصير القصب في مخالفة صريحة لدستور محلات العصير (أن يكون ظليلا ويوحي بالرطوبة ليضغط على بقعة العطش في أدمغتهم)، لكني كنت أفضل هذا المحل تحديدا بسبب لوحة القديس مارجرجس المعلقة به، وكذلك أمي المنهكة من رحلة القطار اليومية، كان المحل يبدو لها كواحة في منتصف الطريق للمنزل.
تصلح القصة كأحدى روايات الوحدة الوطنية وتخطي الحواجز الطائفية، لولا أنني بعد دستة سنوات فهمت من صديق لي أن اللوحة غرضها هو إعلان الهوية الطائفية للمحل أمام الزبائن. صديقي لم يكن يتعامل مع أي محل إلا بعد تفحص الحائط المواجه للباب، باحثا عن آية قرآنية أو صورة للبابا شنودة، وهو ما سيحدد قراره بالتعامل مع المحل أو تفحص البضاعة بحيادية ثم مغادرته. الصديق لم يكن يفعل هذا كقرار يستهدف منفعة طائفته، ولكن ببساطة، عقله المعوي لم يكن يتحمل هذا.
تأملاتي في لوحة القديس كانت خلال ذروة العنف الطائفي في التسعينات، أصابنا منه عملية سطو على متجر ذهب بأكثر الشوارع ازدحاما، كان غرضه انتقامي أكثر من السرقة، لكن بشكل عام كان سكان الحي من الأفندية يكتمون عواطفهم تجاه الطائفة الأخرى، بحيث يظل التعامل باردا كما تقتضي قواعد الوحدة الوطنية، بينما يختزن القلب ما كان طوال عمره بالقلب، أو بالأمعاء كما حال صديقي.
نشأة حي الزيتون كانت شبيهة بتاريخ البلد نفسه، فالقطار يقسم الحي لضفتين شرقية وأخرى غربية: صارت الضفة الشرقية (المحاذية لحي هليوبوليس) جاذبة للأجانب والبرجوازية المتوسطة، بينما ظلت الضفة الغربية تابعة للإقطاعيات الزراعية التي تفتت مع الزمن، ثم تحولت إلى قبلة للمهاجرين من الدلتا والصعيد، وبالتدريج اختفت الزراعات وحل مكانها نمط سكني مديني لكنه أقرب للأرياف، بمنازل صغيرة المساحة وشوارع ضيقة وملتوية، حيث تسيطر مجموعات من المهاجرين ذوي الانتماء الجهوي والعائلي على شوارع وبلوكات بأكملها، وحيث تفوح رائحة فاضحة من الغرباء.
في البداية تركزت إحدى الطائفتين بالضفة الشرقية لكونها أكثر انفتاحا، ولهذا انتشرت بها الكنائس والأديرة ومدرسة راهبات، ثم صار السكن بها من قبيل التبرّك، لكن الدولة لم تكن مرتاحة لهذا، ووسط الكنائس تم السماح للطائفة الأخرى ببناء مسجد متشدد، ثم مسجد آخر أكبر يحمل اسم شقيق رئيس الجمهورية. هكذا تعلمت الدولة من الولاة العثمانيين؛ أن تساند الضعيف حتى يقوى، وتحارب القوي حتى يضعف.
ولا يحتاج الأمر لذكاء حتى نعرف الميول السياسية لكل ضفة، في الشرق اختاروا مرشح الدولة وليس أحد آخر، وفي الغرب اختاروا مرشح الجماعة وليس أحد آخر، شاركت المساجد والكنائس في دفع الناس لأقصى الطرفين، لكننا لم نرى إلا دعاية المساجد بحكم أنها كانت ضد رجل الدولة في تلك اللحظة.
وبعد، تختزن الأمعاء ما كان طوال عمره بالأمعاء، دارت عجلة الروليت مرة وأخرى، نزل هؤلاء من على حجر الدولة لتسحقهم بنعلها، وصعد الآخرون لحجرها متناسين النعل الذي دهسهم بالأمس، وكانت طبيعية تلك الاحتكاكات اليومية بين الطرفين، لم يعد الأفندية قادرين على التحكم بأمعائهم، وفي الأجواء أبخرة شماتة وتحفز لا ينكرها إلا الحمقى؛ نحن لسنا في كفر درويش بمحافظة بني سويف، الكوارث تحدث فقط في أبعد الأماكن.
منذ أسابيع كنت في شارع خلف الكاتدرائية، وعلى واجهة محل الجزار كانت لافتة واضحة "يوجد لحم خنزير"، اندهشت لأن الأمر لم يكن يحتاج إلى لافتة، فلوحة القديس كانت تكفي لإعلان الهوية.


في اللوحة الوحش ليس تنينا، بل المقصود به هو الشيطان، فهي مأخوذة من أيقونة قديمة يتغلب فيها القديس على الشيطان لكنه لا يقتله، وبقليل من الخيال، ومع كمية مناسبة من عصير القصب، كنت أرى في طفولتي التنين يتخلص من حصار الفارس، ينفض جناحيه بعنف ويستجمع أنفاسه الحارقة ثم يندفع خارج اللوحة وإلى المحل الضيق ثم للشارع المزدحم، ويحلق عاليا في السماء، يفرد أجنحته لآخرها، فيحل الظلام على الحي.

Wednesday, November 19, 2014

كيف تصنع عاصمة جديدة في ألف سنة

تبدو مدينة السادات التي تبعد عن القاهرة مسافة 92 كيلومترا وكأنها نموذج مصغر وساخر للعاصمة، فالمدينة أسسها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات عام 1979 لكي تكون عاصمة مستقبلية تحمل اسمه، وبحيث تكون نواتها هي مقرات حديثة للوزرات الحكومية، وحتى اغتياله كان المشروع يسير بشكل جيد، ومعالم المدينة تتضح وكأنها مرآة تعكس صورة نظيفة وحديثة ومنظمة للعاصمة العتيقة. حاليا تفخر مدينة السادات بأن عدد سكانها يزيد عن 150 ألف مواطن، لتصبح بعد كفاح أحد مراكز محافظة المنوفية على حدودها الغربية، وانضمت المقرات الوزارات الافتراضية إلى جامعة المنوفية، بينما لا يزال ركاب وسائل المواصلات الداخلية يستلهمون أسماء المحطات من الوزارات التي لم تحل أبدا في مدينتهم.
تاريخ مدينتي مليء بمدن نشأت بالتوازي مع سلطة حكم جديدة، معظمها حالفه النجاح، وإن كانت تصل لنفس المعنى البائس: جاء العرب ورفض أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" أن تستمر الإسكندرية عاصمة للبلاد وهي أقرب للروم ويفصلها عن عاصمة الدولة الإسلامية نهر النيل، فأسس "عمرو بن العاص" مدينة الفسطاط على الضفة الشرقية للنيل بالقرب من حصن بابليون، واستمرت كعاصمة لمدة 113 سنة، ثم جاء العباسيون وأسسوا مدينة العسكر كضاحية عسكرية ناحية الشمال الشرقي من العاصمة القديمة، وظلت مدينة عسكرية ومحرم سكنها على العامة لمدة 77 سنة، وبالتدريج اختفى الفراغ الفاصل بين المدينتين، لتصبحان عاصمة موحدة تحمل اسم مدينة أصحاب السلطة الجدد، وهي القصة التي ستتكرر، فيما يبدو إلى ما لانهاية بعدها.
بعد نصف قرن، سيؤسس "أحمد بن طولون" عاصمة دولته على مرتفعات شرقية أقرب لهضبة المقطم، وسيسميها القطائع لأنه أقطعها على فرق جيشه المختلفة. بعد قرن تكررت القصة على أيدي الفاطميين؛ نخبة جديدة تبحث لها عن مجد وعزة تميزهم عن أهل البلد، فكانت القاهرة.
تستحق نشأة القاهرة وقفة هادئة؛ المشروع نفسه لم يكن مختلفا عن الدول السابقة، فهي عاصمة جديدة خاصة بالنخبة الحاكمة، لكن كل العواصم السابقة كانت تحتمي بجبل المقطم شرقا، والمستنقعات التي تفصلها عن النيل غربا، وهو موقع سليم نظريا من الناحية الاستراتيجية، حيث لا يمكن غزوها إلا من ناحية الشمال (وهي مفارقة ساخرة لأن هذا لم يحم المدينة من الغزاة في الحقيقة)، لكن المشكلة أن التوسع العمراني لعاصمة جديدة لم يكن له موطئ قدم إلا في هذا الشمال. كانت نواة المشروع هي قصر الحكم، لكن المشروع نفسه كان عبارة عن سور طيني يجمع كل العواصم السابقة.. هكذا نشأت القاهرة.
لكنها في الحقيقة لم تكن القاهرة، في البداية اختار لها مؤسسها "جوهر الصقلي" اسم "المنصورية" نسبة إلى مدينة فاطمية أخرى، وظلت تحمل هذا الاسم لمدة 4 سنوات حتى وصل الخليفة "المعز لدين الله"، فحصلت على اسمها الذي كان يبدو موحيا وقتها بأنها ستقهر الأعداء.
التصميم الأولي للقاهرة كان يجعلها أشبه بمجمع (كومباند) سكني وإداري للنخبة الحاكمة الجديدة التي جاءت من أقصى غرب القارة، دولة الفاطميين لم تعتمد على السيف والذهب وحدهما، بل اعتمدت أيضا على نشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولذلك كان الأزهر هو ثالث إنشاءات المدينة بعد قصر الحكم والسور، ولم يكن ممكنا إغلاق المدينة على النخبة الحاكمة وحدها، فكان كومباوند القاهرة مفتوحا للعامة بشروط خلال النهار، مغلقا تماما أمامهم (وكذلك الغرباء) أثناء الليل، وسنّ الفاطميون سُنة جديدة، وهي السماح للعامة بالمشاركة في احتفالاتهم أثناء المناسبات الدينية (وهي كثيرة جدا في المذهب الشيعي)، بما في هذا أيضا أعياد الأقباط.. استمر هذا الوضع لمدة 200 عام.
ما الذي يمكن أن يحدث خلال 200 سنة؟ فقدت الدولة الفاطمية هيبتها، استمرت القصور في الحكم، بينما ترنحت المدينة. في هذا الزمن وصل الصليبين إلى ساحل النيل، فاضطر آخر خليفة فاطمي إلى إحراق المدينة الأم؛ الفسطاط التي ارتفعت ألسنة اللهب بها لمدة 45 يوما وفقدت أهميتها كعاصمة تجارية وصناعية للأبد، فلاذ أهلها الجوعى بعاصمة الخلافة، ونزلوا بالمساجد والحمامات والأزقة. تهافت عسكر الدولة، فامتلأت الحواري المقطوعة لهم بالحرفيين والتجار والحرافيش. سُبكت المدينة الحقيقية على ألسنة النار.
المدينة الجديدة كانت أصعب مراسا، التهمت العواصم الأولى كلها وهضمتها تماما، ثم استمرت في التوسع شمالا وشرقا، لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي وجد نفسه بحاجة إلى بناء سور آخر قوي يرسم حدودها الجديدة بحزم، وكأنه كان يسعى يائسا إلى تحجيم تلك المدينة الشرهة لالتهام كل ما حولها. كرجل قضى معظم حياته في الحرب، كانت إضافته الراسخة هي "قلعة الجبل" التي صارت مقرا للحكم في مختلف الدول اللاحقة، ومن فوق نتوء بهضبة المقطم، أطلت القلعة على المدينة، وحافظت على هيبتها لعدة قرون كطرف حاكم بدون التورط في صراعاتها الاجتماعية، خلال هذه الفترة، اجتاحت المدينة السور نفسه، كما عبرت النيل، واقتحمت هضبة المقطم.. بالنسبة للحكام التاليين، لم تعد القاهرة قابلة للتحكم في عمرانها، وأصبح عليهم العيش معزولين في القلعة، مع ممارسة التخطيط الداخلي بدلا من محاولة الترويض.
طوال تاريخها، كان نمو القاهرة مكبلا بالنيل في الغرب وهضبة المقطم في الشرق، لكن حصار الهضبة يخف كلما اتجهنا شمالا. في الصحراء المفتوحة أسس الخديو عباس حيا يحمل اسمه، وكان الحي عسكريا كما تبدأ كل القصص السعيدة السابقة، حتى قرر الخديو إسماعيل أن ينقل مقر الحكم لقصر عابدين وخرج بهذا من حصار القلعة، فكانت هذه إشارة لحاشيته بالانطلاق لتعمير الشرق الجديد، ولأول مرة يتوافر للمدينة مساحات منبسطة وشاسعة للتمدد. بالتوازي زرع إسماعيل قلبا أوروبيا للمدينة في الغرب بالقرب من النيل، وحاول توفيق أن يفعل مثله فكان حي التوفيقية، ثم التحم القلب الدخيل، بالقلب القديم المنهك ومتصلب الشرايين. هنا صار اسم "القاهرة" من باب التأصيل التاريخي للمدينة وفي أوراقها الرسمية فقط، بينما قرر أهلها تسميتها بـ"مصر".
==========================
دروس مهمة للحاكم السلطوي الناشئ:

في الموضوع: هل كان حتميا أن يسعى الحكام الجدد دوما إلى تأسيس عاصمة جديدة؟ في حالتنا؛ الإجابة هي "نعم" مؤكدة وكبيرة. العرب، العباسيين، الفاطميين... إلخ، جميعهم كانوا أقلية أتت لحكم البلد بأدوات عسكرية في الأساس، ووسط محيط من أهل البلد الأصليين المختلفين معهم دينيا أو عرقيا، لذلك تمارس العاصمة مهمتها بالمعنى الحرفي للاسم نفسه، بمعنى أنها تحفظ سكانها من الآخرين خارجها. إضافة إلى دور سياسي هو الأكثر علانية وفجاجة، وهو أن عهد قد مضى وانقطع، وأن دولة جديدة قد أتت، وهنا تبدو العاصمة الجديدة في نظر مؤسسها كأنها ولي عهد وليست مجرد مباني وأسوار.. وكأن العهد الجديد يستمد عمره من عمر المدينة نفسها، فالمدن باقية والدول مسيرها الزوال.
في الجغرافيا: هناك سلوك عام واضح يتعلق بالاتجاه شمالا وشرقا، يرجع هذا أساسا إلى ضيق المساحة بين هضبة المقطم والنيل كلما اتجهنا جنوبا نحو حصن بابليون، وبالتالي كانت العواصم الجديدة تتجه إلى الفراغات المتاحة، لكن كانت هناك متلازمة واضحة تتعلق بالارتفاع أيضا، فكلما كانت الدولة الجديدة مهدَدة، كلما اتجهت أكثر نحو الشرق فوق التلال وصارت أكثر تعسكرا، ولا يتعلق الأمر بالمساحة فقط، فالنيل كان يصل قديما لقرب حصن بابلين ثم تراجع وانحسر تاركا بعض البرك والمستنقعات، ولهذا كان الفقراء وأصحاب الحرف يخاطرون بالعيش في الأراضي المنخفضة التي كان الفيضان يهددها أيضا، بينما تسعى النخب الحاكمة لحياة صحية أكثر في المرتفعات (وهو ما سيستمر حتى عصر كومباوندات الصحراء)، تعمير الجزء الغربي من المدينة لم يتم إلا بعد تحسن الخدمات الصحية العامة والقدرات الهندسية. كان التوجه إلى المرتفعات أمرا ملحا لدرجة أن صلاح الدين كلف نفسه بعبء تحويل سور المدينة الشمالي إلى قناطر لنقل المياه نحو القلعة وما حولها من مؤسسات دولته، وهو الذي نعرفه الآن بـ"سور مجرى العيون".

في التكوين: لا تنشأ المدن العريقة بقرار دولة أو بتأسيس المباني؛ تحولت الفسطاط إلى غبار لدرجة أن أحد الأثريين كان مشروعه هو محاولة تحديد موقعها الأصلي، ومن الغبار قامت مدينة دمياط بعد تسويتها بالأرض تماما، بينما ظلت مدينة السادات مجرد صورة نظيفة ومنظمة ومتسعة لعاصمة لم تقم. تنشأ المدن الحقيقية بسبب تفاعلات اجتماعية يمارسها أبنائها على خط تاريخي مستمر ومتقطع، لا تنشأ بسبب عبقرية المكان (وهو معيار دوافعه عسكرية دائما)، بل ربما تنشأ لأكثر الأمور تفاهة، مثل قبور الأجداد، أشجار وأبار وثنيات اعتاد عليها المسافرون، أوحتى أحجار غشيمة حملها أهل البلد بالسخرة، لكنهم يشعرون بملكيتهم لها أكثر ممن أمروا باقتطاعها ورصها في أسوار.