Monday, August 3, 2015

عصير قصب مع التنين

نظرة الغل على وجه التنين. شفطة عصير قصب. الحصان خائف من اللسان الملتهب. شفطة قصب. انطباع الرضا على وجه الفارس كأنه يداعب قطة ولن يحشر الحربة في فم التنين. شفطة قصب طويلة. تفاصيل درع الفارس وتطريز السرج. شف... لقد نفد عصير القصب.
بجوار سينما الزيتون في عصرها الذهبي، شمس الظهيرة تخترق محل عصير القصب في مخالفة صريحة لدستور محلات العصير (أن يكون ظليلا ويوحي بالرطوبة ليضغط على بقعة العطش في أدمغتهم)، لكني كنت أفضل هذا المحل تحديدا بسبب لوحة القديس مارجرجس المعلقة به، وكذلك أمي المنهكة من رحلة القطار اليومية، كان المحل يبدو لها كواحة في منتصف الطريق للمنزل.
تصلح القصة كأحدى روايات الوحدة الوطنية وتخطي الحواجز الطائفية، لولا أنني بعد دستة سنوات فهمت من صديق لي أن اللوحة غرضها هو إعلان الهوية الطائفية للمحل أمام الزبائن. صديقي لم يكن يتعامل مع أي محل إلا بعد تفحص الحائط المواجه للباب، باحثا عن آية قرآنية أو صورة للبابا شنودة، وهو ما سيحدد قراره بالتعامل مع المحل أو تفحص البضاعة بحيادية ثم مغادرته. الصديق لم يكن يفعل هذا كقرار يستهدف منفعة طائفته، ولكن ببساطة، عقله المعوي لم يكن يتحمل هذا.
تأملاتي في لوحة القديس كانت خلال ذروة العنف الطائفي في التسعينات، أصابنا منه عملية سطو على متجر ذهب بأكثر الشوارع ازدحاما، كان غرضه انتقامي أكثر من السرقة، لكن بشكل عام كان سكان الحي من الأفندية يكتمون عواطفهم تجاه الطائفة الأخرى، بحيث يظل التعامل باردا كما تقتضي قواعد الوحدة الوطنية، بينما يختزن القلب ما كان طوال عمره بالقلب، أو بالأمعاء كما حال صديقي.
نشأة حي الزيتون كانت شبيهة بتاريخ البلد نفسه، فالقطار يقسم الحي لضفتين شرقية وأخرى غربية: صارت الضفة الشرقية (المحاذية لحي هليوبوليس) جاذبة للأجانب والبرجوازية المتوسطة، بينما ظلت الضفة الغربية تابعة للإقطاعيات الزراعية التي تفتت مع الزمن، ثم تحولت إلى قبلة للمهاجرين من الدلتا والصعيد، وبالتدريج اختفت الزراعات وحل مكانها نمط سكني مديني لكنه أقرب للأرياف، بمنازل صغيرة المساحة وشوارع ضيقة وملتوية، حيث تسيطر مجموعات من المهاجرين ذوي الانتماء الجهوي والعائلي على شوارع وبلوكات بأكملها، وحيث تفوح رائحة فاضحة من الغرباء.
في البداية تركزت إحدى الطائفتين بالضفة الشرقية لكونها أكثر انفتاحا، ولهذا انتشرت بها الكنائس والأديرة ومدرسة راهبات، ثم صار السكن بها من قبيل التبرّك، لكن الدولة لم تكن مرتاحة لهذا، ووسط الكنائس تم السماح للطائفة الأخرى ببناء مسجد متشدد، ثم مسجد آخر أكبر يحمل اسم شقيق رئيس الجمهورية. هكذا تعلمت الدولة من الولاة العثمانيين؛ أن تساند الضعيف حتى يقوى، وتحارب القوي حتى يضعف.
ولا يحتاج الأمر لذكاء حتى نعرف الميول السياسية لكل ضفة، في الشرق اختاروا مرشح الدولة وليس أحد آخر، وفي الغرب اختاروا مرشح الجماعة وليس أحد آخر، شاركت المساجد والكنائس في دفع الناس لأقصى الطرفين، لكننا لم نرى إلا دعاية المساجد بحكم أنها كانت ضد رجل الدولة في تلك اللحظة.
وبعد، تختزن الأمعاء ما كان طوال عمره بالأمعاء، دارت عجلة الروليت مرة وأخرى، نزل هؤلاء من على حجر الدولة لتسحقهم بنعلها، وصعد الآخرون لحجرها متناسين النعل الذي دهسهم بالأمس، وكانت طبيعية تلك الاحتكاكات اليومية بين الطرفين، لم يعد الأفندية قادرين على التحكم بأمعائهم، وفي الأجواء أبخرة شماتة وتحفز لا ينكرها إلا الحمقى؛ نحن لسنا في كفر درويش بمحافظة بني سويف، الكوارث تحدث فقط في أبعد الأماكن.
منذ أسابيع كنت في شارع خلف الكاتدرائية، وعلى واجهة محل الجزار كانت لافتة واضحة "يوجد لحم خنزير"، اندهشت لأن الأمر لم يكن يحتاج إلى لافتة، فلوحة القديس كانت تكفي لإعلان الهوية.


في اللوحة الوحش ليس تنينا، بل المقصود به هو الشيطان، فهي مأخوذة من أيقونة قديمة يتغلب فيها القديس على الشيطان لكنه لا يقتله، وبقليل من الخيال، ومع كمية مناسبة من عصير القصب، كنت أرى في طفولتي التنين يتخلص من حصار الفارس، ينفض جناحيه بعنف ويستجمع أنفاسه الحارقة ثم يندفع خارج اللوحة وإلى المحل الضيق ثم للشارع المزدحم، ويحلق عاليا في السماء، يفرد أجنحته لآخرها، فيحل الظلام على الحي.

No comments:

Post a Comment