Thursday, October 13, 2011

المواطنون الشرفاء- الجنوب الهادئ

يتعارض المظهر الهادئ للأستاذ وفيق مع ما كان يحدث تحت بنطاله.. بالأصح ما لم يحدث.
كان سعيد الحظ يومها، فقد قرر أن يستخدم المترو لزيارة والدته في بيت العائلة القديم بالسيدة زينب، وها هو يعود من مشواره فيجد الشوارع مختنقة. قال لنفسه إن عدم استخدام السيارة كان قرارا حكيما بالفعل.
لكن مشوار كهذا لم يكن رحلة سعيدة بالنسبة لمفاصله. يكون المترو أكثر بطئا في يوم الجمعة، كما أنه ازدحم على غير العادة، ربما بسبب المتظاهرين الذين انضموا له في محطة التحرير، بأعلامهم وعرقهم ووجوههم المرهقة الفرحة.
انضغط الركاب في محطات رمسيس وغمرة، مما دفع بها أمامه مباشرة، لم يكن هناك في مظهرها ما يدل على أنها من ثوار التحرير، ولم يكن هو قادرا على ترك بصره عليها لمدة أطول من النظرة العابرة، بسبب ضيق الزاوية وحرصه على مظهره الوقور. لكن حرارة جسدها كانت تُجسم هالة حولها تُغني عن البصر.
كل ما أدركه من نظرته الأولى هو أنها محجبة، لكن تلك الهالة المثيرة كانت دقيقة لدرجة أنها أظهرت لها نغزتين على جانبي فمها مثل تلك الثائرة الجريئة التي تظهر في التليفزيون، وتكثفت الهالة فأصبحت أكثر عمقا، وأنضجت الهالة صدرا بارزا وعفيا ذكره بفكرة عتيقة غامضة لم يعد قادرا حتى أن يدركها، كل انحناءات الهالة كانت واثقة، صلبة وجريئة تتحدى الحكمة والأيام، وشعر بأن شيئا ما يدب تحت بنطاله، شيئا قديما لم يعهده من زمن فات.
هذه المرة تجرأ على رفع نظره لها، كانت بنتا عادية تتنفس هواء العربة الثقيل بثقة واعتياد، ومع كل نفس تلتقطه كان صدرها يرتفع لمليمترات قليلة غير ملحوظة (تكون كافية للمتابع الصبور)، لكن هالتها كانت تتضخم وتضغط على أنفاسه هو شخصيا، تحتويه وتتلاعب به في رفق. ويل لحبيبها النحيف الذي يختلي بها في الشوارع المظلمة، أو لعله يضاجعها مرات في خيمة بالميدان، ثم يخرجان لضرب العسكر والإطاحة بالنظام، ثم يضاجعها من جديد، أو يبدلها مع ثائر آخر نحيف بلحية نامية.
استفزته فكرة الجنس الجماعي مع كل ما بها من احتمالات، لكن لم تنتقل تلك الثورة لنصفه الجنوبي الذي ظل محافظا، فقرر أن يختطفها هو لبحيرته السرية.
جذب تلك الهالة المثيرة وألقى بها على شاطئ البحيرة التي شهدت انتصاراته السابقة على رئيسته في العمل ومذيعة نشرة الأخبار وامرأة بواب العمارة ذات الرائحة الملحية. لم تقاومه الضحية الجديدة، بل استجابت له برقة وميوعة فتركها تهبط للمياه الفضية بينما تلتصق ملابسها عليها لتبرز تفاصيل لم تكن حتى الهالة تجرؤ على كشفها.
كان بدون ملابسه كما هي عادته على تلك البحيرة فاندفع ورائها في مشهد اعتاد سرعته وعنفه كثيرا من قبل، لكنها انسابت بخفة مبتعدة في قلب البحيرة، هي إذن تريد أن تلعب، لكن على ملعبه تكون النتيجة واحدة أيا كان شكل اللعبة.
دفع نفسه بكل قوته نحوها، لكنها سبحت مبتعدة عنه بدون أي مجهود، حاول بقوة أكثر، لكن كل مرة كانت تبتعد عنه وهي تضحك مستمتعة، حاول أكثر وأكثر، لكنه لم يقترب منها على الإطلاق. كانت تبدو كائنا مائيا خُلق ليسبح وينطلق، بينما هو يستهلك أنفاسه الغالية بلا طائل. نظر للشاطئ فوجده بعيدا، بينما هي تتوغل أكثر وأكثر في قلب البحيرة، ولم تتوقف عن الضحك.
لم يكن أبدا كائنا بحريا، ولم يكن مقدرا له الغوص أو حتى السباحة. ولم يدرك هذا وهو يحرك أطرافه بعشوائية، حتى أنه تمنى أن يُغرق تلك الحورية المائية معه.
عاد غاضبا بأنفاس ضيقة لعربة المترو. كانت محطة كوبري القبة قد أتت، وبرز من العربة بنات وصبيان مثلها تراصوا نحو الباب. ابتسمت البنت له وقالت:
-         بعد إذنك يا عمو.

Sunday, October 9, 2011

المواطنون الشرفاء- تاكسي رينو 1981

لدى الأسطى سالم قاعدة بسيطة كسائق تاكسي: منطقة عمله تقع داخل مربع يضم مصر الجديدة والزيتون وحدائق القبة فقط، وهو لا يخرج من هذا المربع أيا كان الإغراء. وإذا كنت تعرف الأسطى سالم جيدا، فستدرك أنه لا يكسر قواعد عمله أبدا.
كان يشعر بالأمان داخل هذا المربع ولا يجد فائدة في المخاطرة بالخروج، وداخل المربع هناك منطقة أكثر دفئا في الزيتون حيث يسكن. التواجد ضمن المربع الأساسي كان الذهاب لأماكن لا يعرفها، أما المنطقة الدافئة فكانت تمثل الحماية من اعتداء أمناء الشرطة، وفيها كان يقضي الأسابيع التي يسحبون فيها رخصته أو عندما لا يملك تكلفة فحص وتجديد أوراق السيارة.
وتبدو هذه القاعدة حكيمة جدا الآن، مع وجود جحافل البلطجية الذين انتشروا في كل مكان، مفضلين سرقة سيارات التاكسي تحديدا. الأسبوع الماضي سمع أنهم خرجوا على شخص ما في شارع ترعة الجبل وحاولوا سرقة سيارته، ولأنه قاومهم فقد أطلقوا عليه النار من أسلحتهم الآلية، ثم تركوا سيارته وسرقوا المحمول الخاص به فقط، تاركين السائق ينزف حتى الموت في الشارع المزدحم بالمارة.
لقد سمع نفس الحكاية بحذافيرها منذ شهرين، مع إضافة تفاصيل عن السائق الذي كان له ولدان أحدهما في الجامعة، ولذلك تجنب الأسطى سالم المرور في شارع الترعة لعدة أيام، إلا أنه كان من المستحيل الاستمرار في هذا مع قاعدة عمله الصارمة، فعاد بالتدريج متعايشا مع خوفه. لم تكن سيارته الرينو طراز 1981 تُغري بالسرقة على أي حال، وحتى لو تم تفكيكها فإن ما ينتج منها لن يصلح كقطع غيار، السيارة من الأساس تحولت إلى مجموعة من قطع الغيار التي سبق استعمالها آلاف الكيلومترات بسيارات أخرى، ولم يكن مستعدا لإجراء إصلاحات كبيرة بها حتى لا تنهار نهائيا.
كفاية إنها ماشية، وهذا ما يغري الطامعين.. هكذا قال لنفسه.
لم يكن مقياس الحرارة بالسيارة يعمل، وكذلك دورة التبريد التي تسرب من عدة أماكن، لكن كان يمكنه الشعور بحرارة المحرك وهي تهب عليه بينما السيارة متوقفة تماما في آخر ساعة، ولم يكن قادرا على إطفاء المحرك خوفا من عدم دورانه مجددا.
كان غاضبا ويحتاج للتنفيس عن أعصابه، خاصة وأن الزبونة هربت وتركته مفضلة المشي أو استخدام المترو، خرج من السيارة ونظر لآخر الشارع فلم يستطع أن يرى شيئا (حيث أن نظره يضعف بشدة خلال الليل وهو لا يحب ارتداء النظارة إلا في القراءة واختبارات القيادة). تلفت حوله فوجد بجواره 3 مراهقين فوق عربة كارو محملة بأجولة من نواتج الهدم بإحدى الشقق (كانوا في طريقهم لإلقائها بجوار المترو لكن الشلل المروري منعهم فلم يعد أمامهم إلا الانتظار حتى نهاية الأزمة ليستكملوا مهمتهم). رمى عليهم السؤال التقليدي:
-         - هو فيه إيه؟
سحب أحدهم آخر نفس من زغروف البناجو وكاد أن يرد عليه إلا أن أصغرهم بادر بالواجب:
-         - بيقولوا البلطجية بتوع التحرير جايين علينا.. ما تلحق نفسك يا عم الحاج.
لم يخطئ اللهجة الساخرة في كلامه، وأدرك أنه سيكون مسخرة لهؤلاء الأوباش فاستدار ناحية الرصيف ليجد شابا يحاول التسلل بين السيارات المتوقفة، فنقل سؤاله له:
-         - هي واقفة لحد فين؟
-         - لحد آخر الشارع، بس أنا مش عارف ليه أنتو زانقين نفسيكم هنا، الشارع اللي بره رايق.
لوهلة أسعده الخبر، لكنه استعاد طبيعته المتشككة، فهو لا يدري إذا كان كلام الشاب صحيحا أم لا، خاصة وأن الشارع الآخر أقرب لوزارة الدفاع، كما أن عملية الخروج من هذه الأزمة ستكون أصعب مع كل هذا الزحام.
سيبقى بلا حركة حتى آخرتها.
-         - الله يحرق بتوع التحرير.

المواطنون الشرفاء- المرسيدس الحمراء

تصنع الست عائشة أفضل ملوخية يمكن تذوقها على مدار التاريخ في دائرة نصف قطرها 539 متر حول منزلها، ورغم هذا كانت أنفاسها ضعيفة لدرجة أنها لم تتمكن من تأدية شهقة الملوخية التراثية في آخر 8 سنوات. عندما تدهور جهازها التنفسي سألت عن الطبيب الشهير الذي كان وزيرا للصحة في يوم من الأيام، وذهبت لعيادته في مصر الجديدة لتتجنب الوقوف لساعات بين مرضاه الفقراء في عيادة شبرا التي ربما يختم بها يومه المنشغل.. وربما لا.
لم يقل لها الطبيب شيئا، لقد توقف منذ أيام الوزارة عن الإشارة للهواء الذي أصبح ملوثا والماء الذي يمنح أرقى أنواع السرطان، كان يعرف السبب، لكنه مل وتوقف عن ربط المرض بمسبباته، ومثله الست عائشة التي تطل شرفتها على شارع تعبره آلاف العربات يوميا لتثير أطنان من الأتربة ودخان وقود لم يحترق جيدا، ومع ذلك كان كل ما تخشاه هو أن تصدم إحدى السيارات ولدها علي، ولم تلاحظ كل تلك الأتربة التي حولت رئتها اليسرى إلى حفرية كربونية.
كان عمرها أقل من الأربعين، وكانت الدقائق الثلاثة التي خصصها لها الطبيب توشك على الانتهاء، فوصف لها واحد من 4 مضادات الحساسية تنتجها شركتان يحاصره مندوبو دعايتها بإلحاحهم ونشراتهم.. وأيضا دعواتهم لمؤتمرات علمية فاخرة على شواطئ قبرص وشرم الشيخ. ستتحسن الست عائشة في الأيام القادمة بعد استخدام الدواء وستتحدث بفخر عن ذهابها لعيادة الوزير في مصر الجديدة، لكن سرعان ما يفقد الدواء فاعليته (وهي لن تذكر هذا حتى لا تبدو كالحمقاء)، ويعرف الطبيب هذا وكذلك الشركتان، ولهذا سيصف لها واحدا من الثلاثة أدوية الأخرى، وعندما تنتهي؛ سيعيد نفس المجموعة في دائرة لا تنتهي إلا بسفره إلى فرنسا على حساب شركة ثالثة.. أو هكذا كان يتمنى وقتها.
بأنفاسها القصيرة، تقف الست عائشة الآن في شرفتها تنظر برعب إلى طابور السيارات المتوقفة في الشارع، مالت خارج الشرفة لكي تنظر لنهاية الطابور فوجدته يمتد إلى آخر حدود بصرها. أغلقت شيش الشرفة حتى تقلل من ضجة السيارات وتستمع إلى نشرة القناة الأولى التي قال مذيعها منذ ساعات إن مجموعة من المتظاهرين توجهوا إلى وزارة الدفاع. دعت على ثوار التحرير بالخراب والأمراض وأسوأ تشكيلة ممكنة من المصائب. حاولت الاتصال بابنها علي لتطمئن عليه في الإسكندرية (حياتها كانت دائرة لا تنتهي من مصادر القلق ومحاولات الاطمئنان)، لكنها تذكرت أنها لا تعرف كيف تستخدم المحمول وأنها ستنتظر حتى يتصل هو بها.
بغضب، رمت المحمول على الأريكة (حتى لا يتحطم)، وقعدت تنتحب، بينما تتجول في رأسها عصابات البلطجية وسيارات مرسيدس حمراء تُطلق النار على الأبرياء فلا تصيب غير ابنها.