Wednesday, November 19, 2014

كيف تصنع عاصمة جديدة في ألف سنة

تبدو مدينة السادات التي تبعد عن القاهرة مسافة 92 كيلومترا وكأنها نموذج مصغر وساخر للعاصمة، فالمدينة أسسها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات عام 1979 لكي تكون عاصمة مستقبلية تحمل اسمه، وبحيث تكون نواتها هي مقرات حديثة للوزرات الحكومية، وحتى اغتياله كان المشروع يسير بشكل جيد، ومعالم المدينة تتضح وكأنها مرآة تعكس صورة نظيفة وحديثة ومنظمة للعاصمة العتيقة. حاليا تفخر مدينة السادات بأن عدد سكانها يزيد عن 150 ألف مواطن، لتصبح بعد كفاح أحد مراكز محافظة المنوفية على حدودها الغربية، وانضمت المقرات الوزارات الافتراضية إلى جامعة المنوفية، بينما لا يزال ركاب وسائل المواصلات الداخلية يستلهمون أسماء المحطات من الوزارات التي لم تحل أبدا في مدينتهم.
تاريخ مدينتي مليء بمدن نشأت بالتوازي مع سلطة حكم جديدة، معظمها حالفه النجاح، وإن كانت تصل لنفس المعنى البائس: جاء العرب ورفض أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" أن تستمر الإسكندرية عاصمة للبلاد وهي أقرب للروم ويفصلها عن عاصمة الدولة الإسلامية نهر النيل، فأسس "عمرو بن العاص" مدينة الفسطاط على الضفة الشرقية للنيل بالقرب من حصن بابليون، واستمرت كعاصمة لمدة 113 سنة، ثم جاء العباسيون وأسسوا مدينة العسكر كضاحية عسكرية ناحية الشمال الشرقي من العاصمة القديمة، وظلت مدينة عسكرية ومحرم سكنها على العامة لمدة 77 سنة، وبالتدريج اختفى الفراغ الفاصل بين المدينتين، لتصبحان عاصمة موحدة تحمل اسم مدينة أصحاب السلطة الجدد، وهي القصة التي ستتكرر، فيما يبدو إلى ما لانهاية بعدها.
بعد نصف قرن، سيؤسس "أحمد بن طولون" عاصمة دولته على مرتفعات شرقية أقرب لهضبة المقطم، وسيسميها القطائع لأنه أقطعها على فرق جيشه المختلفة. بعد قرن تكررت القصة على أيدي الفاطميين؛ نخبة جديدة تبحث لها عن مجد وعزة تميزهم عن أهل البلد، فكانت القاهرة.
تستحق نشأة القاهرة وقفة هادئة؛ المشروع نفسه لم يكن مختلفا عن الدول السابقة، فهي عاصمة جديدة خاصة بالنخبة الحاكمة، لكن كل العواصم السابقة كانت تحتمي بجبل المقطم شرقا، والمستنقعات التي تفصلها عن النيل غربا، وهو موقع سليم نظريا من الناحية الاستراتيجية، حيث لا يمكن غزوها إلا من ناحية الشمال (وهي مفارقة ساخرة لأن هذا لم يحم المدينة من الغزاة في الحقيقة)، لكن المشكلة أن التوسع العمراني لعاصمة جديدة لم يكن له موطئ قدم إلا في هذا الشمال. كانت نواة المشروع هي قصر الحكم، لكن المشروع نفسه كان عبارة عن سور طيني يجمع كل العواصم السابقة.. هكذا نشأت القاهرة.
لكنها في الحقيقة لم تكن القاهرة، في البداية اختار لها مؤسسها "جوهر الصقلي" اسم "المنصورية" نسبة إلى مدينة فاطمية أخرى، وظلت تحمل هذا الاسم لمدة 4 سنوات حتى وصل الخليفة "المعز لدين الله"، فحصلت على اسمها الذي كان يبدو موحيا وقتها بأنها ستقهر الأعداء.
التصميم الأولي للقاهرة كان يجعلها أشبه بمجمع (كومباند) سكني وإداري للنخبة الحاكمة الجديدة التي جاءت من أقصى غرب القارة، دولة الفاطميين لم تعتمد على السيف والذهب وحدهما، بل اعتمدت أيضا على نشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولذلك كان الأزهر هو ثالث إنشاءات المدينة بعد قصر الحكم والسور، ولم يكن ممكنا إغلاق المدينة على النخبة الحاكمة وحدها، فكان كومباوند القاهرة مفتوحا للعامة بشروط خلال النهار، مغلقا تماما أمامهم (وكذلك الغرباء) أثناء الليل، وسنّ الفاطميون سُنة جديدة، وهي السماح للعامة بالمشاركة في احتفالاتهم أثناء المناسبات الدينية (وهي كثيرة جدا في المذهب الشيعي)، بما في هذا أيضا أعياد الأقباط.. استمر هذا الوضع لمدة 200 عام.
ما الذي يمكن أن يحدث خلال 200 سنة؟ فقدت الدولة الفاطمية هيبتها، استمرت القصور في الحكم، بينما ترنحت المدينة. في هذا الزمن وصل الصليبين إلى ساحل النيل، فاضطر آخر خليفة فاطمي إلى إحراق المدينة الأم؛ الفسطاط التي ارتفعت ألسنة اللهب بها لمدة 45 يوما وفقدت أهميتها كعاصمة تجارية وصناعية للأبد، فلاذ أهلها الجوعى بعاصمة الخلافة، ونزلوا بالمساجد والحمامات والأزقة. تهافت عسكر الدولة، فامتلأت الحواري المقطوعة لهم بالحرفيين والتجار والحرافيش. سُبكت المدينة الحقيقية على ألسنة النار.
المدينة الجديدة كانت أصعب مراسا، التهمت العواصم الأولى كلها وهضمتها تماما، ثم استمرت في التوسع شمالا وشرقا، لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي وجد نفسه بحاجة إلى بناء سور آخر قوي يرسم حدودها الجديدة بحزم، وكأنه كان يسعى يائسا إلى تحجيم تلك المدينة الشرهة لالتهام كل ما حولها. كرجل قضى معظم حياته في الحرب، كانت إضافته الراسخة هي "قلعة الجبل" التي صارت مقرا للحكم في مختلف الدول اللاحقة، ومن فوق نتوء بهضبة المقطم، أطلت القلعة على المدينة، وحافظت على هيبتها لعدة قرون كطرف حاكم بدون التورط في صراعاتها الاجتماعية، خلال هذه الفترة، اجتاحت المدينة السور نفسه، كما عبرت النيل، واقتحمت هضبة المقطم.. بالنسبة للحكام التاليين، لم تعد القاهرة قابلة للتحكم في عمرانها، وأصبح عليهم العيش معزولين في القلعة، مع ممارسة التخطيط الداخلي بدلا من محاولة الترويض.
طوال تاريخها، كان نمو القاهرة مكبلا بالنيل في الغرب وهضبة المقطم في الشرق، لكن حصار الهضبة يخف كلما اتجهنا شمالا. في الصحراء المفتوحة أسس الخديو عباس حيا يحمل اسمه، وكان الحي عسكريا كما تبدأ كل القصص السعيدة السابقة، حتى قرر الخديو إسماعيل أن ينقل مقر الحكم لقصر عابدين وخرج بهذا من حصار القلعة، فكانت هذه إشارة لحاشيته بالانطلاق لتعمير الشرق الجديد، ولأول مرة يتوافر للمدينة مساحات منبسطة وشاسعة للتمدد. بالتوازي زرع إسماعيل قلبا أوروبيا للمدينة في الغرب بالقرب من النيل، وحاول توفيق أن يفعل مثله فكان حي التوفيقية، ثم التحم القلب الدخيل، بالقلب القديم المنهك ومتصلب الشرايين. هنا صار اسم "القاهرة" من باب التأصيل التاريخي للمدينة وفي أوراقها الرسمية فقط، بينما قرر أهلها تسميتها بـ"مصر".
==========================
دروس مهمة للحاكم السلطوي الناشئ:

في الموضوع: هل كان حتميا أن يسعى الحكام الجدد دوما إلى تأسيس عاصمة جديدة؟ في حالتنا؛ الإجابة هي "نعم" مؤكدة وكبيرة. العرب، العباسيين، الفاطميين... إلخ، جميعهم كانوا أقلية أتت لحكم البلد بأدوات عسكرية في الأساس، ووسط محيط من أهل البلد الأصليين المختلفين معهم دينيا أو عرقيا، لذلك تمارس العاصمة مهمتها بالمعنى الحرفي للاسم نفسه، بمعنى أنها تحفظ سكانها من الآخرين خارجها. إضافة إلى دور سياسي هو الأكثر علانية وفجاجة، وهو أن عهد قد مضى وانقطع، وأن دولة جديدة قد أتت، وهنا تبدو العاصمة الجديدة في نظر مؤسسها كأنها ولي عهد وليست مجرد مباني وأسوار.. وكأن العهد الجديد يستمد عمره من عمر المدينة نفسها، فالمدن باقية والدول مسيرها الزوال.
في الجغرافيا: هناك سلوك عام واضح يتعلق بالاتجاه شمالا وشرقا، يرجع هذا أساسا إلى ضيق المساحة بين هضبة المقطم والنيل كلما اتجهنا جنوبا نحو حصن بابليون، وبالتالي كانت العواصم الجديدة تتجه إلى الفراغات المتاحة، لكن كانت هناك متلازمة واضحة تتعلق بالارتفاع أيضا، فكلما كانت الدولة الجديدة مهدَدة، كلما اتجهت أكثر نحو الشرق فوق التلال وصارت أكثر تعسكرا، ولا يتعلق الأمر بالمساحة فقط، فالنيل كان يصل قديما لقرب حصن بابلين ثم تراجع وانحسر تاركا بعض البرك والمستنقعات، ولهذا كان الفقراء وأصحاب الحرف يخاطرون بالعيش في الأراضي المنخفضة التي كان الفيضان يهددها أيضا، بينما تسعى النخب الحاكمة لحياة صحية أكثر في المرتفعات (وهو ما سيستمر حتى عصر كومباوندات الصحراء)، تعمير الجزء الغربي من المدينة لم يتم إلا بعد تحسن الخدمات الصحية العامة والقدرات الهندسية. كان التوجه إلى المرتفعات أمرا ملحا لدرجة أن صلاح الدين كلف نفسه بعبء تحويل سور المدينة الشمالي إلى قناطر لنقل المياه نحو القلعة وما حولها من مؤسسات دولته، وهو الذي نعرفه الآن بـ"سور مجرى العيون".

في التكوين: لا تنشأ المدن العريقة بقرار دولة أو بتأسيس المباني؛ تحولت الفسطاط إلى غبار لدرجة أن أحد الأثريين كان مشروعه هو محاولة تحديد موقعها الأصلي، ومن الغبار قامت مدينة دمياط بعد تسويتها بالأرض تماما، بينما ظلت مدينة السادات مجرد صورة نظيفة ومنظمة ومتسعة لعاصمة لم تقم. تنشأ المدن الحقيقية بسبب تفاعلات اجتماعية يمارسها أبنائها على خط تاريخي مستمر ومتقطع، لا تنشأ بسبب عبقرية المكان (وهو معيار دوافعه عسكرية دائما)، بل ربما تنشأ لأكثر الأمور تفاهة، مثل قبور الأجداد، أشجار وأبار وثنيات اعتاد عليها المسافرون، أوحتى أحجار غشيمة حملها أهل البلد بالسخرة، لكنهم يشعرون بملكيتهم لها أكثر ممن أمروا باقتطاعها ورصها في أسوار.

Saturday, August 23, 2014

الأسوار لم تكن عالية بما يكفي


مشوار جنب الحيط
كم يبلغ عدد الحواجز الإسمنتية المتراصة على ضفتي شارع صفية زغلول لتمنع ركن السيارات وتبعد المواطنين عن أسوار المؤسسات الحكومية؟
في كل مرة أمر بالشارع، أفكر في عد الحواجز، لكني أسرح دائما فيما تعنيه تلك الكتل في علاقة أهل المنطقة بالمؤسسات التي تشاركهم في فراغ الشارع، تقيدهم وتقصيهم منه أيضا.
الشارع ضيق ولا يوحي بمظاهر السيادة التي تنضح منه، فهو محاط بالوزارات والمؤسسات الحكومية على ضفتيه، تتراص الكتل الإسمنتية بمحاذاة الأرصفة، حيث تتسابق كل مؤسسة لإبراز سيادتها والتأكيد على أنها لا تقل سيادة عن الأخرى، لدرجة أن إحدى الهيئات وضعت كتلتين أمام أرض فضاء تابعة لها.
ربما يكون سبب هذا هو الخوف من السيارات المفخخة؛ تلك السيارات الشريرة التي انفجرت أمام اثنين من أكثر الأماكن سيادية في القاهرة والمنصورة، رغم كل الأسوار والحواجز حولها.
تنتهي عظمة المشهد في ساعة خروج الموظفين: ولاعات صينية، أكياس خضار مجهز، معلبات اقتربت من نهاية الصلاحية، وأي شيء من الإبرة لكشافات الطوارئ.. كلها تفترش الكتل الإسمنتية وتغطيها تماما، ومعها وحولها الكثير من الباعة الجائلين والفلاحات والمتسولين بحججهم المختلفة، حيث تتحول حواجز السيادة إلى سوق كبير مغرٍ وفوضوي.
وأمام وزارة الإنتاج الحربي، المكان الأشد سيادة بين باقي المؤسسات في المنطقة، اعتاد شباب المنطقة استغلال المساحة في المساء للعب الكرة، وعلى الناحية الأخرى من الملعب هناك ضريح زعيم الأمة.
غني عن الذكر أن الدولة وهي في طريقها لاستعادة هيبتها قد منعت هؤلاء الشباب من اللعب، وتم إغلاق هذا القطاع من الشارع أمام السيارات لتأكيد الاستعادة.
وعلى بعد عدة مئات من الأمتار في اتجاه الشمال، تقع بوابات القصر العيني الفولاذية، والتي تصنع خطا فاصلا بين حي الدولة وعالم ميدان التحرير، حيث تتجلى أقسى مظاهر السيادة في نصب تذكاري قبيح وعديم المعنى. وناحية الشرق تتعدد الحواجز والجبال الإسمنتية حول قلعة السيادة ذاتها؛ وزارة الداخلية.
لكن تبقى السفارتان الأمريكية والبريطانية هما أكثر مكان يمكنك فيه قياس السيادة الحقيقية، بواسطة الأسوار والحواجز والجبال الإسمنتية عددا وحجما.

لتتعرف على حياة أهل المنطقة وسط الجدران الإسمنتية يمكنك مشاهدة الفيلم القصير "مشوار لحد الحيطة" الذي أخرجه الكاتب والشاعر "عمر طاهر":




وعبر أقواس النصر
في أيامه الأخيرة، ظن "محمد مرسي" أن تلك الأسوار القوسية القبيحة ستحميه من تطاول المتظاهرين على قصر الاتحادية، واعتبرها منتقدوه علامة على ضعفه وتعاليه. لم يعرف مرسي أن ذات الأسوار ستستمر لحماية رئيس مؤقت وآخر فعلي في الطريق إلى القصر.
هل وُضعت تلك الأسوار في عهد مرسي لحماية من يجيء بعده؟ أم أن الفكرة كانت عبقرية لدرجة لا يمكن مقاومتها؟ الحقيقة أنها كانت فعالة جدا، لدرجة اقتباسها لاحقا أمام وزارة الدفاع في شارع الخليفة المأمون، ومقر المخابرات الحربية في شارع الثورة.
أثناء فترة دراستي في جامعة عين شمس، كان من الممنوع "تقريبا" السير على رصيف الوزارة، أقول تقريبا لأن صرامة المنع كانت غير ثابتة. الآن، ورغم تضاعف درجة الصرامة والسيادة، أشاهد المارة وهم يسيرون بجوار الرصيف الذي احتلته الأسوار القوسية، لا يزال المنع غير صارم والعساكر يملون من هش المارة طوال النهار، لكن شخصا ما قام بإزالة جزء كبير من رصيف المارة في الجزيرة الوسطى، وبالتالي عاد الناس للسير بحذاء الوزارة، وتحت الأقواس العظيمة.
مقر المخابرات الحربية هو في الأساس قصر أثري تخفيه عن الأعين أسوار داخلية عالية، وتم الحفاظ على السور الخارجي الأثري، وللتضييق على المارة أضيف سور من القضبان المعدنية على حدود الرصيف نفسه، ثم تم اللجوء مؤخرا إلى الأسوار القوسية التي احتلت الرصيف بأكمله لكي يستأثر القصر بأقصى حدود السيادة.
منطقة شرق القاهرة كلها نشأت كباحة خلفية للثكنات العسكرية، بدأت من العباسية، ثم تمددت الثكنات مع العسكر الإنجليز ليرثها جيش يوليو حتى الآن. وهو وضع لا يزعج السكان في الغالب، فوجود الثكنات "ربما" يعني خدمات وتأمين أفضل، وتكون هناك دائما فرصة لمزيد من الاستثمار والتوسع العمراني عندما تقرر الوزارة بيع قطعة أرض هنا أو هناك.
المنطقة أيضا كانت جذابة لسكن الضباط وأسرهم. محمد نجيب، وهو أول رئيس مدني عسكري غير منتخب، كان يسكن في بيت عادي بالقرب ميدان حلمية الزيتون، وكان الضباط الأحرار أثناء زيارته قبل 23 يوليو يتظاهرون بأنهم في طريقهم للسهر في ملهى ليلي بالميدان.
حاليا، تحتل المنشآت التابعة لوزارة الدفاع معظم الجانب الشمالي من شارع ابن الحكم الذي يشق ميدان الحلمية، ليست كلها عسكرية الطابع، هناك ناد وحديقة ومركز ترفيهي فاخر، إضافة إلى مدينة زهراء الحلمية التي تم تأسيسها في البداية لسكن الضباط، ثم تسرب إليها المدنيون لاحقا. المدينة مجهزة بحدائق وملاعب داخلية، ولهذا كانت دوما هدفا لغزو أبناء المناطق المحيطة التي لا تتمتع بهذه الخدمات.
أبناء المدينة يعرفون بعضهم جيدا، ولهذا يصير الغريب فريسة سهلة لهم، مستندين لمراكز الآباء التي تعلو على الحساب، ولأن الشرطة والقانون مرهونان هنا بإرادة سادة المدينة.
ولقد أضيفت للمدينة بوابات معدنية مؤخرا، لكي تصير محرمة فعليا، وتستكمل استقلالها بصورة مادية واضحة أمام عامة المدنيين الذين حلموا بالتطاول عليها.

خريطة عامة من جوجل لشارع ابن الحكم:



البطل الشعبي الذي شق أسوار السيادة
عشت منذ طفولتي بجوار خط القطار، فيما قبل مرحلة المترو كان القطار يقسم حينا إلى نصفين، شرقي وغربي، وعلى عكس طبيعة العالم، كان الجزء الغربي أقل تطورا ويعتمد على الزراعة والرعي، بينما الشرقي أكثر تواصلا مع العالم الواسع وتشبها به، ولهذا كان العبور اليومي ضروريا للجميع.
المزلقانات قليلة، ولهذا استعاض المارة عنها بفتح ثقوب كثيرة في سور خط القطار، وكأن هناك ثأرا بينهم وبين هذا السور. العقل الجمعي لدينا يرفض التخريب، لكنه أيضا يناور ويحتفي ضمنيا بالبطل الشعبي الذي يهدم أول حجر في جسم السور، تاركا فرجة تكفي ربما لعبور طفل صغير، ولاحقا يتكفل طوفان البشر العابرين بتوسعة الشق، ثم شرعنته كمعبر رسمي.
مع دخول المترو، اختفى الثأر بين الناس والسور، فالناس يخافون من الكهرباء أكثر من القطار ذاته، واختفى البطل الشعبي في ظروف غامضة.
مبنى محطة سراي القبة والاستراحة الملكية الملحقة بها، يحملان لوحات الفنية بارزة عن تنوع الحياة في مصر. تناقض الصورة مع الحال خارجها، حيث تعرضت باحتها الخارجية لغزو الباعة وصار الشارع أمامها موقفا للتاكسيات غير المرخصة. ينظر جيراني لهم بقرف واستحقار، والمظهر نفسه ليس أنيقا بأي حال، لكنه يعكس استعادة أهل المنطقة لفراغهم، وإعادة تنظيمه بما يوافق نشاطهم الاقتصادي الذي تعتبره الدولة غير رسمي لأنه بعيد عن سلطتها، لأنه لا يحترم أسوارها وسيادتها.
أفكر في ذلك البطل الشعبي القديم، عندما عاد هنا ووضع أول فرشة ولاعات صينية أو سجائر مهربة، فرجة ضيقة تكفي لمرور كائن ضئيل، ثم من بعده يأتي باقي الباعة، ليصبح أمرهم شرعيا رغم أنف الدولة.

صور لمحطة سراي القبة من الخارج، من مدونة مستنقعات الفحم للكاتب "ميشيل حنا":




 
على الضفة الأخرى من الشارع، انتقلت ملكية مقر الحزب الوطني إلى المجلس القومي لشؤون المعاقين. في الماضي كان محرما على أهل المنطقة ترك سياراتهم في محيط الحزب، بما فيها ساحة سيارات تابعة للحي، وذلك لأن رئيس ديوان رئاسة الجمهورية ربما يمر أثناء زيارته للمقر. حاليا استعاد أهل المنطقة حقهم التاريخي في ركن سياراتهم بالشارع والساحة، بينما كانت أولوية المجلس هي تعلية وتقوية أسواره واستقدام شركة أمن لحراسته، فيما يبدو تفاديا لمصير مبنى المجالس القومية المتخصصة، الذي لا تزال جثته المتفحمة رابضة على كورنيش النيل.
قسم شرطة الزيتون قام هو الآخر بتعلية أسواره. في الماضي السحيق كان هذا القسم سجنا عسكريا تابعا لقوات الاحتلال الإنجليزي، ثم تحول إلى قسم شرطة واحتفظ بشيء من جمال واجهته القديمة، بينما امتد بناؤه في الخلف بطريقة حكومية قبيحة ومعتادة، ورغم الواجهة ظل المكان مقبضا وكئيبا ككل الأقسام، حوله سور من القضبان المعدنية، وباحة أمامية جرت محاولات بائسة لتشجيرها لتخفيف وحشية المعنى.
فجأة، انقلب الأهالي خلال الثورة على القسم، وبعد احتراقه صار مزارا سياحيا لمن فاتهم المشهد، ثم بعد شهور أعيد تجديده، وتم بناء أسوار حجرية للتحصن، ولاحقا تمت تعلية تلك الأسوار، وأضيفت لها متاريس من أكياس الرمال وفتحات لإطلاق النار، وتُمنع السيارات من المرور أمامه، استولى القسم على أماكن ركن السيارات في الجهة المقابلة من الشارع والشوارع الجانبية المحيطة به، السكان صار عليهم ترك سياراتهم بعيدا واستئذان الجنود يوميا من أجل المرور.
هؤلاء هم أهل المنطقة، كانوا داعمين للقسم في معظم الأوقات، ثم انقلبوا عليه ثم عادت الشرطة للقلب من جديد، وهي حاليا تقوم بتسديد دينها لهم.

مجموعة صور للقسم بعد الهجوم عليه واحتراق أجزاء منه:





أقوال شبه مأثورة
يقول السلطويون، إن هذا شعب لا يُحكم إلا بالقوة، وهو قول صحيح بشكل عام، فالقوة خُلقت أساسا للحكم، لكن هذا لا يكفي أبدا لاستقراره، هناك آلاف الأدلة في التاريخ، ربما يكون آخرها أمام محطات المترو.
يقولون أيضا إن الدولة أخيرا استعادت هيبتها، بينما لا أرى وراء تلك الأسوار إلا حكاما يخشون التقلبات وسط بحر من البشر قابل للاشتعال في أي لحظة، فينعزلون خلف الأسوار ويزيدونها ارتفاعا.
يقول أحد أصدقائي، إن الدولة في بر مصر لم تتعلم شيئا مما حدث لها في يناير، لم تتعلم سوى أن الأسوار لم تكن عالية بما يكفي، والرصاص لم يكن قاتلا بما يكفي.
ويقول ناصح أمين، إن هيبة الدولة ليست في عنفها وإنما في احترامها لحقوق أضعف مواطنيها، وأنا أرى هذا قولا مملا لن يكترث به من كانت القوة هي معياره الوحيد.
لا ينكسر الحديد، وإنما يتآكل ببطء وثبات لو تركته في الهواء.

نُشر هذا المقال في بوابة الشروق بتاريخ الأربعاء 9 أبريل 2014، وأجريت عليه تعديلات بسيطة *