Sunday, October 9, 2011

المواطنون الشرفاء- المرسيدس الحمراء

تصنع الست عائشة أفضل ملوخية يمكن تذوقها على مدار التاريخ في دائرة نصف قطرها 539 متر حول منزلها، ورغم هذا كانت أنفاسها ضعيفة لدرجة أنها لم تتمكن من تأدية شهقة الملوخية التراثية في آخر 8 سنوات. عندما تدهور جهازها التنفسي سألت عن الطبيب الشهير الذي كان وزيرا للصحة في يوم من الأيام، وذهبت لعيادته في مصر الجديدة لتتجنب الوقوف لساعات بين مرضاه الفقراء في عيادة شبرا التي ربما يختم بها يومه المنشغل.. وربما لا.
لم يقل لها الطبيب شيئا، لقد توقف منذ أيام الوزارة عن الإشارة للهواء الذي أصبح ملوثا والماء الذي يمنح أرقى أنواع السرطان، كان يعرف السبب، لكنه مل وتوقف عن ربط المرض بمسبباته، ومثله الست عائشة التي تطل شرفتها على شارع تعبره آلاف العربات يوميا لتثير أطنان من الأتربة ودخان وقود لم يحترق جيدا، ومع ذلك كان كل ما تخشاه هو أن تصدم إحدى السيارات ولدها علي، ولم تلاحظ كل تلك الأتربة التي حولت رئتها اليسرى إلى حفرية كربونية.
كان عمرها أقل من الأربعين، وكانت الدقائق الثلاثة التي خصصها لها الطبيب توشك على الانتهاء، فوصف لها واحد من 4 مضادات الحساسية تنتجها شركتان يحاصره مندوبو دعايتها بإلحاحهم ونشراتهم.. وأيضا دعواتهم لمؤتمرات علمية فاخرة على شواطئ قبرص وشرم الشيخ. ستتحسن الست عائشة في الأيام القادمة بعد استخدام الدواء وستتحدث بفخر عن ذهابها لعيادة الوزير في مصر الجديدة، لكن سرعان ما يفقد الدواء فاعليته (وهي لن تذكر هذا حتى لا تبدو كالحمقاء)، ويعرف الطبيب هذا وكذلك الشركتان، ولهذا سيصف لها واحدا من الثلاثة أدوية الأخرى، وعندما تنتهي؛ سيعيد نفس المجموعة في دائرة لا تنتهي إلا بسفره إلى فرنسا على حساب شركة ثالثة.. أو هكذا كان يتمنى وقتها.
بأنفاسها القصيرة، تقف الست عائشة الآن في شرفتها تنظر برعب إلى طابور السيارات المتوقفة في الشارع، مالت خارج الشرفة لكي تنظر لنهاية الطابور فوجدته يمتد إلى آخر حدود بصرها. أغلقت شيش الشرفة حتى تقلل من ضجة السيارات وتستمع إلى نشرة القناة الأولى التي قال مذيعها منذ ساعات إن مجموعة من المتظاهرين توجهوا إلى وزارة الدفاع. دعت على ثوار التحرير بالخراب والأمراض وأسوأ تشكيلة ممكنة من المصائب. حاولت الاتصال بابنها علي لتطمئن عليه في الإسكندرية (حياتها كانت دائرة لا تنتهي من مصادر القلق ومحاولات الاطمئنان)، لكنها تذكرت أنها لا تعرف كيف تستخدم المحمول وأنها ستنتظر حتى يتصل هو بها.
بغضب، رمت المحمول على الأريكة (حتى لا يتحطم)، وقعدت تنتحب، بينما تتجول في رأسها عصابات البلطجية وسيارات مرسيدس حمراء تُطلق النار على الأبرياء فلا تصيب غير ابنها.

No comments:

Post a Comment