Saturday, September 7, 2013

كنيسة في الحي الشرقي

يحكي لي مينا ما يحدث في المنيا، محافظته التي يعود لها في العطلات والأعياد: عندنا لما مسلم ومسيحي يتخانقو، أمن الدولة يجيبهم مع بعض، وينفخهم ضرب وتعذيب.. المسلم والمسيحي.
بينما يستكمل مينا حكايته التي كانت قصيرة وموحية، سرحت بخيالي في أيام الطفولة، عندما كان والدي يطبق نفس سياسية العقاب الجماعي عليّ وأخي كلما تعاركنا، كانت رسالته لنا واضحة وبسيطة: إذا لم تحلا مشاكلكما سويا وبعيدا عني، فإنه لن يكون هناك رابح وخاسر، ولا محق ومخطئ.. ستكونا أنتما الاثنان خاسران ومخطئان. لا أتذكر أبدا أن وسيلته كانت ناجحة، كان كل منا يعتبر أن الآخر هو سبب العقاب، وكنا نجمد الضغينة لوهلة، انتظارا لتفجر مشكلة أخرى ثم العقاب الجماعي، ومع الوقت صار كل منا يرى فائدة ما بهذا العقاب، لأنه على الأقل يرى الآخر وهو يعاني.
لم يكن والدنا مستمتعا بهذا، ومع الوقت لم يعد قادرا على الاستمرار فقرر تجاهلنا، لكن في بلادي الدولة يمتعها أن يستمر الجميع في التصارع مع الجميع، وتصل ذروة متعتها في اللحظة التي تمارس فيها الأجهزة الأمنية طقوس العقاب الجماعي والمصالحة الوطنية القسرية، ثم ذروة النجاح عندما يستمتع الجميع بألم الجميع.
هذه المقدمة، هذه الفكرة، كانت آخر ما أكتبه في تلك التدوينة، بدأت البحث والكتابة بفكرة بسيطة عن منظر شاهدته في منطقة دار السلام، حيث مسجد وكنيسة تجاورا إلى حد الالتصاق، وفيما يبدو دار صراع طويل ومرير حول أيهما أكثر ارتفاعا.. برج الكنيسة أم المئذنة؟ وربما تفوق المسجد عند تأسيسه على الكنيسة، لكن تلك قامت بتطويرات جعلت المبنى نفسه أعلى من المئذنة، فكان رد المسجد حاسما ببناء مئذنة مبالغ جدا في ارتفاعها، وبحيث تفوق البرج بثلاثة أو أربعة طوابق كاملة. كان يهدم صور خادعة تمتلئ بها قبعة الإعلام عن المآذن التي تعانق أبراج الكنائس في فضاء الوحدة الوطنية.
كان هذا صراعا عبثيا في أحد أفقر أحياء المدينة وأقلها تنمية. يمكنك أن تردد هذه العبارة وأنت تقف في الشارع الذي بُنيت فيه الكنيسة والمسجد، والذي لا يزيد عرضه عن خمسة أمتار.
تاريخنا سلطوي لدرجة تجعلك تظن أنه "في البدء كانت الدولة"، دولتنا كأنها سبقت البشر والكلمات. مدينتي العريقة تأسست وسابقاتها بأمر من السلطة الحاكمة، لذلك كان منطقيا أن تكتمل سيطرتها أولا على القلب الصلب القديم، ذلك صراع لم نشهده، لكن صراع آخر، مصيري وحتمي، يدور الآن على أرض الجسد الإسفنجي للمدينة، حيث اكتمل شكل المجتمعات لكنه لم يتكلس ويتصلب بعد.
حكايتنا تحدث في المستوطنات الحديثة بالشرق والشمال.
--------------
نشأت المستوطنة الأولى في الزيتون على خط النار القديم بين المدينة والريف والصحراء، كان الغزاة ريفيين بالأساس، ولذلك لم يستغرق الصراع أكثر من جيل واحد ليتحول الغزاة إلى مستوطنين، نصف غرباء يقاومون غزو المزيد من الريفيين، ساعد على هذا أن التكوين العمراني الأصلي لمستوطنة الزيتون لم يكن سائلا ومفتوح الاحتمالات مثل المستوطنات اللاحقة في الشمال الشرقي. لقد واجه المستوطنون الأوائل كتلة مدينية صلبة وراسخة أسسها المحتلون والبطانة الملكية والعسكر والتابعون، ولوهلة، لم يجدوا غير الانصياع للشوارع والميادين والمصانع، وهي أشياء تنظم التعبير عن الهوية وتؤجل صراعاتها، لكنها لا تلغيها بالقطع.
تاريخ المنطقة تصنعه متتاليات من الرمال والماء والأشجار. بدأ الأمر عندما كان جنود الامبراطور الروماني هيرودوس يجوسون في منطقة المطرية بحثا عن طفل تحدث في مهده وأنجبته عذراء فلسطينية، فاحتمت السيدة مريم العذراء وولدها المسيح (عليهما السلام) بشجرة جميز، وكأن الشجرة أشفقت على الهاربين فأخفضت غصونها لتخفيهم عن أعين الجنود، وتفجرت تحتها عين ماء شربت العائلة منها، واغتسلوا فسالت البركة على الأرض وارتوى منها نبات البلسان[i]، وأقيمت لاحقا كنيسة بجوارها، وكذلك ساقية توزع ماء البئر المبارك.
امتد العمر بالشجرة لأكثر من 16 قرنا، ثم استراحت أخيرا من معاناة الأيام في 1656، وقام مجموعة من الآباء الفرنسيسكان بجمع غصونها وحفظها، وبعد 16 عاما نمت من جذورها شجرة جديدة[ii]، أما النبع نفسه فقد اختفى، ويُقال إنه كان أمام سوق الخضار الحالي في ميدان المطرية، وإنه يقع تحت بناية يملكها أحد المسلمين، وإنه يتعمد إخفاء البئر نكاية في الأقباط.
ويتفرع الصراع بعيدا عن الشجرة، فالشجرة والكنيسة تقعان في شارع البلسم المتفرع من شارع المطراوي الآن، ويأتي الاسم نسبة إلى مسجد المطرواي الذي يضم ضريح القطب الصوفي أحمد المطراوي الذي يعود نسبه إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وقد استمد شهرته من صحبة سيدي أحمد البدوي، وله مولد يحمل اسمه يُقام في ليلة النصف من شهر شعبان. هذا التتابع الدرامي بين الكنيسة والمسجد سيمثل شكل الصراع في السنوات المقبلة. لكن ضربة البداية لم تكن في المولد.
مثل حكايات الغرب الشرس القديم، تبدأ المغامرة دائما بقطار يخترق المجهول ثم يتوقف لإرساء واقع جديد. في عام 1911 وصل خط القطار إلى منطقة شبين القناطر، ليوصل قلب العاصمة بالضواحي الإقطاعية في الشمال، وفي السنوات التالية اكتسب القطار أهمية مضاعفة عندما أنشأ الملك فؤاد الأول محطة سراي القبة في مواجهة البوابة الشرقية لقصر القبة، وزودها باستراحة خاصة لكي يستقل وضيوفه القطار منها. كانت الضفة الشرقية لخط القطار أمام القصر غير جاذبة للسكن، وبخلاف قصر الطاهرة الذي بنته الأميرة أمينة ابنة الخديوي إسماعيل، لم تكن هناك سوى بضع فيلات متناثرة في أرض رملية صلعاء تحاصرها الثكنات العسكرية الكئيبة من الشرق.
لكن التربة كانت أكثر طراوة كلما اتجهنا شمالا، كانت محطة حدائق الزيتون نُطفة للحي الذي بدأ في النشوء، وحول المحطة انتشرت بنايات تستوحي تصاميمها من قلب القاهرة الخديوية، لم يكن هذا مجرد محاكاة معمارية، بل أيضا كنوع من التحدي (المخلوط بالكثير من الحسد) لشركة Heliopolis Oasis التي بنت حيا كاملا على مساحة 25 كيلومترا مربعا شرق الزيتون. لم يكن مشروع حي هليوبوليس معتادا في البلاد وقتها (أن تقوم مؤسسة خاصة بإنشاء حي كامل بخدماته ومرافقه)، وكان وجود الشركة يستفز المغامرين البرجوازيين والإقطاعيين الذين اعتادوا التعمير على ملكيات فردية أو عائلية (وكذلك عربان الصحراء العدميين ولكن وجود الثكنات العسكرية كان كفيلا بتهدئتهم)، وبينما استرجعت هليوبوليس طراز المعمار الأندلسي، ضمن تمسح بالهوية العربية ظهر في تصميم المنطقة التجارية وأسماء الشوارع، جاء الرد من رواد فضاء الزيتون بالبناء على الطرز الأوروبية (التي تصل إلى الباروكية أحيانا)، على ملكيات صغيرة المساحات، على خلاف قلب المدينة الذي اعتمد على بنايات مركبة ممتدة المساحات. إنها إحدى عجائب البحث عن هوية: أن يختار البارون إمبان البلجيكي هوية أندلسية بكل ما تمثله من آلام للأوروبيين، بينما أولاد البلد ينسخون من نسخة باريسية صنعها حكامهم الأتراك.
محطة قطار عديمة الأهمية تتخذ قرارات كبرى لتحديد الهوية، يتفق هذا مع الجو العام للبلاد التي أصبحت قضايا هويته أكثر خشونة. كانت المستوطنة الأولى تعج ببقايا إقطاعيين، يجاورهم برجوازيون ونخب مهنية وعسكرية، بالإضافة إلى أوروبيين لم تستهويهم صحراء هليوبوليس، وهو تكوين يشابه النخب الحاكمة في البلاد كلها، لكن انحيازهم إلى الكوزموبوليتانية أدى إلى الانقسام عوضا عن الامتزاج، ولم يكن هناك أفضل من خط القطار لتكريس هذه القسمة.
أصبحت الضفة الشرقية أوروبية الطابع كما حلم الرواد، لكن الضفة الغربية استمرت ريفية محافظة، ساعد على هذا أن الخط المحازي لشريط القطار يتكون من ملكيات واسعة نسبيا (عِزَب)، لكنه يحتوي على فراغات تسمح بتوطين الفلاحين وصغار الملاك. استقر المنتجون ووسائل الإنتاج في ضفة، والنخب ووسائل الترفيه الحديثة في ضفة أخرى، وهو وضع ليس غريبا على البلاد.
وسط الأجواء الأوروبية المشجعة، قرر مجموعة من أقباط الزيتون تحقيق رؤيا قديمة عن ظهور السيدة مريم في كنيستها، وكانت المنطقة خالية من الكنائس القبطية، وتبرع أحد وجهاء المنطقة[iii] بقطعة أرض لبنائها (في شارع طومانباي حاليا)، وجمع الأقباط 450 جنيه للبناء، وهو مبلغ محترم في سنة 1924، وعندما توفيّ صاحب الأرض تبرع ابنه ببنائها بالكامل، ووضع المهندس الإيطالي ليموفيللي[iv] تصميمها لتكون نموذجا مصغرا من كنيسة آجيا صوفيا في القسطنطينية، والتي حولها العثمانيون بفجاجة إلى مسجد آيا صوفيا منذ 5 قرون. الصراع على ديانة العالم الجديد لم يبدأ الآن فقط، بل يبدو كأن عدواه كامنة في خط الزمن نفسه، ينتقل من الماضي ويجدد نفسه على أرض جديدة. بدأ بناء الكنيسة بعد شهور قليلة من انهيار الخلافة العثمانية. الإشارة واضحة.
وجود كنيسة العذراء لم يغير شيئا على الأرض الجديدة، فالصراع الرئيس كان لترسيخ وزخرفة الهوية الكوزموبوليتانية، فحتى منتصف القرن العشرين لم يزد عدد الكنائس القبطية في المنطقة عن ثلاث، وشجعت الأجواء على إنشاء 4 كنائس كاثوليكية ودير للآباء السالزيان خلال القرن نفسه، بالإضافة إلى كنيسة للروس الأرثوذكس و4 لطائفة البروتستانت. أما مدرسة راهبات نوترادام ديزابوتر للبنات فقد تم تأسيسها مبكرا في نهاية القرن التاسع عشر. يبدو الأمر وكأن المنطقة كانت جنة تتسامح فيها كل الأديان والطوائف تحت رعاية الدولة الحانية.
لم يتسبب هذا في اشتعال أي منافسة مع المسلمين خلال النصف الأول من القرن العشرين. كان المسجد الأول بالزيتون هو مسجد الغلال في شارع المتوكل بجوار مزلقان المحطة، وهو مبني بالأخشاب وتعرض لعمليات تطوير وتوسيع لاحقة، ولا يزال جزء منه باقيا على حالته الأصلية في ضلعه الشرقي، محتفظا بالقبلة الأصلية والعروق الخشبية العتيقة في سقفه. وعلى بعد عدة أمتار شمال المحطة تم بناء مسجد الحداد بالأحجار وعلى الطراز الإسلامي التقليدي في عام 1943، أما على الضفة الغربية (الأكثر فقرا)، فلم يتم بناء مساجد ذات أهمية تاريخية طوال نفس الفترة[v].
لم تكن هناك حاجة للتنافس الديني طوال الستة عقود الأولى من القرن، كانت الأرض متاحة للجميع، وعدد السكان في المنطقة لم يكن يشجع على الاحتكاك. كان هذا حتى ليلة الثاني من أبريل 1968، عندما انطلق سرب من الحمام الأبيض فوق القبة الوسطى للكنيسة الأولى، وفاض على القبة نور الممتلئة بنعمة الرب، المباركة ثمرة بطنها أم المسيح، أم النور والرحمة.. السيدة العذراء مريم عليها وولدها السلام.
10 أشهر بعد هزيمة 1967، 4 عمال من الوردية الليلية في الجراج الحكومي المقابل لكنيسة العذراء في شارع طومانباي، يبلغون عن ظهور أضواء متألقة فوق القبة الوسطى للكنيسة، وعندما طار سرب الحمام صرخ الجميع "دي العدرا مريم". كان هذا هو الظهور التاريخي للعذراء في المنطقة، والذي استمر لعدة أشهر ولم تفلح محاولات التشكيك به، ويُقال أن الرئيس جمال عبد الناصر شهده شخصيا بنفسه، وأن الحكومة بعد أن يأست من دحضه قامت بتحصيل تذاكر من آلاف المواطنين الذين جاؤوا ليشهدوا الظهور، ثم في النهاية تبرعت بأرض الجراج لبناء كاتدرائية عليه.
يفسر الأقباط ظهور العذراء بأنه رسالة تعزية لكل المصريين الذين أحبطتهم الهزيمة العسكرية، رسالة تطمئنهم بأن الله لم ينسهم، بالإضافة إلى رسالة أخرى تخص شعب الكنيسة القبطية الذي ضج من اضطهاد خفي طوال الفترة الناصرية.
أمر غريب. فالصورة النمطية للمجتمع خلال هذه الفترة لا تتركك تتخيله إلا كعنبر ضخم يتحرك في العمال بتناغم عابر للطبيعة الجنسية والانتماء الديني، في صراع دائم ضد الاستعمار الرأسمالي ومن أجل التنمية والرخاء. هذا ما تقوله الأفلام وبقايا مثقفي الستينات. ورغم أنه ربما تكون هذه هي الخطة الناصرية الأصلية، وأن الخطة نجحت بشكل جزئي، إلا أن الواقع الأرضي لم يكن كذلك.
كنت دائما أنظر إلى والدي باستغراب، فهو رجل محافظ ومتدين لم يتناول السياسة إطلاقا إلا بعد تقاعده، كما أنه بشكل ما كان ينظر باحتقار إلى الشيوعية التي يرى أن عبد الناصر حاول تطبيقها في البلاد (رغم كونه أحد المستفيدين من السياسة الاجتماعية للناصريين بعد انهيار تجارة جدي). وسبب استغرابي هو أن هذا الرجل يُعد من الجيل الذي تعرض بشكل مثالي لماكينات التثقيف والإعلام الجبارة للناصريين (هو من مواليد 1939)، ومع ذلك مر من هذه المعجنة بدون أثر يُذكر. ربما يكون أكبر بعدة أعوام من علي البدري بطل مسلسل ليالي الحلمية الذي كان أوضح تمثيل لتحول هذا الجيل من الأحلام الجسيمة إلى البراجماتية الوقحة، وربما لا نذهب بعيدا في الدراما، فوالدي أصغر بثلاثة أعوام فقط من مفيد شهاب، أحد نجوم الاتحاد الاشتراكي ورئيس منظمة الشباب (حكى لي أحد أقاربي أنه شارك معه في الحفر وحمل الأتربة خلال تطوير عشش معروف في وسط البلد)، ثم التحول الكبير إلى محلل قانوني ومنظر سياسي للحزب الوطني. والدي لم يجذبه هذا التيار ولا ذاك، كأن هذه الفترة كانت نقاشا عابرا ورقيقا انشغل هو عنه بأمر أهم (أكل العيش غالبا)، كنت أظن أن الأمر يرجع لشخصيته ذاتها، حتى اكتشفت لاحقا أن هذه صفات معظم مستوطني الزيتون خلال السبعينات والثمانينات. مرت الناصرية بدون تأثير سياسي يُذكر بعقلية المستوطنين، لكنها تركت أثرا دينيا لم تسجله الدراما وتجاهله الأدباء والمثقفون.
كان العدوان الإسرائيلي في 1956 المسبب الأول لتصاعد خطاب معادي لليهود، انتشر هذا العداء على مستويات متعددة طبقيا وشاركت فيه مؤسسات الدولة، وظل ساريا لما بعد الخروج اليهودي الكبير، ولم يكن العداء على أساس قومي فقط بحكم المعركة الدائرة في سيناء والقناة، بل كان دين الأغلبية مكونا أساسيا فيه (مثل نشيد "الله أكبر" الذي تم استخدامه لشحن العواطف أثناء العدوان الثلاثي)، والخطوة التالية كانت توجه هذا الشحن نحو الحلقة التالية في السلسلة الغذائية بالمجتمع، الأقباط، وهؤلاء بحكم الأقلية العددية كان تأثر أغنيائهم بقرارات التأميم أعمق من مثيلها لدى المسلمين[vi]، كما أن حساسيتهم أعلى تجاه الآثار الجانبية لعمليات توجيه المجتمع، وتكشف وقائع الظهور نفسها عن عدم ثقة متبادلة بين الكنيسة والدولة.
"لعل هذا الظهور بشير خير وعلامة من السماء على أن الرب معنا، وأنه سيكون فى نصرتنا، ولن يتركنا، فنحن نسمع منذ يونيه الماضي أن الله تخلى عنا" قال الأنبا غريغوريوس رئيس لجنة التقصي التي شكلها البابا كيرلس السادس لتقصي وقائع معجزة الظهور. ورغم أن العبارة تبدو موجهة للمصريين عموما، إلا أن كثير من الأقباط فسروا "الظروف العصيبة" بأنها كانت تخص المسيحيين وحدهم. ويضيف البابا شنودة أنه "في عهد عبد الناصر كانت ظروف الأقباط صعبة وحوادث حرق الكنائس لم يكن يعلن عنها"[vii].
لن تجد أخبار هذا التوتر المكتوم في الكتب والأفلام. اللاواقعية الحالمة لأدب وسينما الفترة الليبرالية فيما قبل انقلاب يوليو، تلتها الدولة الناصرية التي كانت قادرة على إخفاء التوتر الديني وإبقائه تحت السطح بالسيطرة على الإعلام وبالتالي الصورة النمطية التي يراها المصريون لأنفسهم. الأفلام المصرية حتى نكسة يونيو لم تكن تترك لك خيارا في تخيل الطبقة الوسطى إلا بكونها طليعة في عملية تغريب مستمرة (مع التأكيد المستمر على سطوة الدولة وحتميتها في إدارة الاختلاف)، وتم تناول الجوانب المحافظة في المجتمع بشكل سطحي متعمد، حتى التيارات الواقعية كانت نتيجة لحركات مماثلة في الغرب، وبروح استشراقية في معظم الوقت. بانقضاء الناصرية ورجالها المتحمسون، كانت العودة سهلة وحتمية إلى القواعد التقليدية المحافظة، وبعد سنوات قليلة، صار من الصعب أن تجد أثر إنساني للناصرية في الزيتون.
كانت الدولة العسكرية تسيطر على المستوطنة منذ ولادتها، في البداية عبر الثكنات العسكرية المحيطة بالقصور الملكية، ثم السجن الحربي البريطاني، وتلتهم النخب العسكرية الجديدة التي تفتشت وسط أبهة البنيان الكوزموبوليتاني، ثم وهنت تلك السيطرة فجأة مع هزيمة 1976. العام نفسه يعطي دلالة واضحة عن تلك الحالة، ففي هذا العام شهدت المستوطنة إنشاء جمعيتين قبطيتين بها (جمعية الشهيد البطل الامير تادرس، وجمعية أقباط الزيتون الملحق بها مستشفى خيري كبير يخدم أبناء المستوطنة من كل الأديان).
قبل هذا التاريخ، وصل المشروع الكوزموبوليتاني في مستوطنة الزيتون لذروته ثم تجمد في الخمسينات، انتهى الأمر ليس فقط بسبب التناقض بين الضفتين، ولكن لأن شريحة عريضة من سكان الضفة الشرقية صاروا من فئات محافظة بطبعها، مثل ضباط الجيش وتجار الخضار والفاكهة الذين كانت أعمالهم تجري بين المرج وروض الفرج، وبالتوازي طورت الدولة الضفة الغربية صناعيا فتغيرت تركيبتها السكانية من الفلاحين إلى العمال وصغار الموظفين. استعاد أولاد البلد طبيعتهم المحافظة، وجاء الرد سريعا على ظهور العذراء.
في نفس عام ظهور العذراء، وعلى بعد عدة مئات من الأمتار جنوب الكنيسة، بدء تأسيس مسجد العزيز بالله على يد الداعية محمد جميل غازي المقرب من جمعية أنصار السنة المحمدية، والذي تحول في أواخر السبعينات إلى أحد أهم معاقل السلفيين في القاهرة، وقد أُلحق به جمعية خيرية ومستشفى متطور، إضافة إلى المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة، وجذبت أنشطة المسجد العديد من الدعاة والمشايخ، خاصة خلال التسعينات التي شهدت أقصر تصعيد سلفي ضد النظام الحاكم للبلاد، ومع مرور الوقت، صارت شاحنات الأمن المركزي جزء من معالم المنطقة.
لم يعلن مؤسسو المسجد عن علاقته بظهور العذراء والكاتدرائية التي ظهرت فيما بعد، لكن تصميم المسجد وتمويل بنائه يسرب بعض الملامح عن تلك الخطوة.
حتى بناء مسجد العزيز بالله، كان تمويل بناء المساجد يعتمد على العائلات الكبرى في المنطقة، مثل مساجد الظواهري والحداد، ولم يكن عدد السكان يتطلب وجود الزوايا بعد، وكانت تصميمات المساجد تميل إلى إبراز أي معالم للأبهة حتى لو كانت بشكل متواضع، مع الالتزام بالتصميم الكلاسيكي العام، مثل توازن أبعاد المساحة لكي لا تطول صفوف المصلين أكثر مما ينبغي فيضعف تواصلهم مع الإمام في المنتصف. عكس هذا تماما تجده في مسجد العزيز بالله، حيث التصميم براجماتي تماما لاستغلال مساحة الأرض الضيقة للدرجة القصوى، المسجد نفسه يحتل جزء من المبنى الذي يضم أيضا باقي المؤسسات الملحقة به، مما حرمه من التصميم الخارجي المعتاد للمساجد، فلا توجد قبة مركزية ولا مئذنة، وداخليا تخلى المصمم عن توازن الصفوف بسبب قطعة الأرض المستطيلة التي يمتد محورها الطولي على محور شمال/جنوب، بينما اتجاه القبلة الطبيعي ناحية الجنوب الشرقي يجعل صفوف المصلين تميل داخليا (وهو شيء مزعج جدا تفاداه مصممو المساجد الأقدم لأنه يهدر المساحة ويفسد السيمترية)، كما تم اقتطاع شريحة من الأرض لصالح مدخل الملحق، فزاد تشوه التصميم الداخلي.
لم يكن هناك حاجة لكل هذه الصعوبات لو تم البحث عن قطعة أرض لبناء المسجد على الضفة الغربية، وهي كانت متوافرة بشدة، كما أنها توفر الوسط السكاني المثالي للمسجد، بحيث تنطلق الدعوة إلى أهلها. لكن عوضا عن ذلك تم بناؤه وسط الكتلة الكوزموبوليتانية القديمة، وعلى بعد مرمى حجر جنوب كنيسة العذراء. وإذا لم يكن الموقع مقصودا، فلماذا تكرر نفس النمط بعد عدة سنوات شمال الكنيسة مع مسجد عاطف السادات؟
لم يكن من المنطقي اعتبار مسجد عاطف السادات في هذا السياق لولا الاسم نفسه. فالمسجد مبني على الحدود الشمالية للمشروع الكوزموبوليتاني، بعيدا عن التناقض الحاد الذي يصنعه المعمار مع نوعيات السكان، مستندا إلى عزبة الأصبغ التي تُعد أول حدود العالم الذي ينشغل سكانه بلقمة العيش أكثر من الهوية المعمارية، وعلى بعد خطوات من منزل الرئيس محمد نجيب، وهو المنزل الذي غادره في صباح أحد أيام 1954 ولم يعد له أو لمنصبه من جديد.
تمت تسمية المسجد تيمنا بذكرى شهيد القوات الجوية النقيب عاطف السادات، شقيق الرئيس محمد أنور السادات، ورغم أن المسجد يلعب دورا مختلفا عن النهج السلفي لمسجد العزيز بالله، فإن موقع البناء مع هذه التسمية على ما فيها من تلطف مع السلطة (أو قل تملق)، لا يخدمان إلا غرض واحد يتعلق فقط بظهور العذراء وبناء الكاتدرائية التي وضع البابا شنودة الثالث حجر الأساس بها في 1975، وتم افتتاحها في 1989.
بُنيت مستوطنة الزيتون على طبقات من توازن ديني هش ومؤجل النظر فيه، وكان محتما أن يؤدي إلى انفجار طائفي ظل يختمر في النصف الثاني من القرن الماضي، والمفاجأة لم تكن في تفجره، بل في أن حجم وتواتر هذا الانفجار كان أقل من المتوقع[viii]، وأقل بكثير مما حدث في مستوطنة أحدث مثل عين شمس التي تصاعدت الاحتكاكات بها واكتسبت زخما مؤسسيا وجماعيا.
وبُني المسجدان كرد فعل على ظهور العذراء وقرار بناء كاتدرائية الذي أخل بالتوازن الاجتماعي السابق، وهو ما ستجده مكررا في طول البلاد وعرضها، أن يتم بناء المسجد بالقرب من الكنيسة لكي يحد من تمدد نشاطها، أو كنوع من المضايقة عندما يرد المؤذن خمس مرات يوميا على صوت أجراس الكنيسة في قداسات الأحد والجمعة، وبحيث تصل رسالة مستمرة إلى المسيحيين بأن المجال ليس مفتوحا أمامهم للنهاية. حدث هذا على امتداد عشرات السنين أمام أعين دولتنا العزيزة، وبرعايتها أحيانا؛ لم تسعى تلك الدولة يوما لوضع حد أدنى للمسافة بين بيوت الله عندما تختلف الديانات (رغم أنها تفعل مع الصيدليات)، لم تُصدر يوما قانون عام وموحد لمعايير بناء المساجد والكنائس. لم يحدث أبدا.
الآن، وصلت القصة لنهايتها، ويمكنك أن تفعل مثلما كنا أنا وأخي نفعل، أن تشارك في الصراع حتى تصل لمرحلة تشعر فيها بالظلم فتلجأ للأب الأكبر من أجل إنصاف لن يحدث وسينتهي بمتعة مريضة في معاقبة النفس والآخر، لكن تذكر أن الدولة هنا لم تسعى أبدا لمصلحة الطرفين سويا، وأنها في مستوطنتي رعت تمييزا ثقافيا وطبقيا لنصف قرن، ثم استبدلته بصراع آخر ديني كانت فيه تنحاز وتُبدل قواعد اللعبة لإضعاف الجميع وإثارة الكراهية بينهم.




[i] البلسان: نبات عطري علاجي موطنه الأصلي في فلسطين ويُستخرج منه البلسم الذي تستخدمه الكنائس في طقوسها، وقامت صناعة كاملة على استخراج البلسم في المنطقة وكان يُعد هدية قيمة بين الملوك، وانتقل اسم البلسم إلى الشارع الذي تقع به الشجرة الآن.
[ii] هذه الشجرة هي التي استمرت حتى الآن، وخلال الحملة الفرنسية، بعد أن انتصر جيش الجنرال كليبر على العثمانيين، استراح الجنود الفرنسيين بجوار الشجرة وحفروا أسمائهم عليها بأسنة الرماح، وسجلوا كيف شفاهم ماء النبع من الرمد الذي تفشى بينهم. في عام 1967 أصدرت الجمهورية العربية المتحدة طابع بريد تذكاري بقيمة 80 مليما يحمل صورة شجرة مريم والعذراء.
[iii] الأستاذ خليل إبراهيم، وهناك رواية قبطية عن كونه أول قبطي يستوطن منطقة الزيتون.
[iv] سنلاحظ كثيرا تأثير المهندسين الإيطاليين في معمار المنطقة، وعلاقة هذا بالتنافس مع هليوبوليس التي كان معظم مصمموها فرانكوفونيين ومالكها البارون إمبان بلجيكي.
[v] كان هذا حتى قامت عائلة الظواهري في الثمانينات ببناء جامع كبير يتسع لأربعة آلاف مصل في شارع ترعة الجبل بالزيتون الغربية، وتحيط به حديقة (وهو شيء غير معتاد في المساجد الحديثة التي تستغل المساحات بعملية)، وكان هذا يقع ضمن النشاط الاجتماعي للعائلة العريقة، ولهم مسجد آخر أصغر وأقل زخرفة في نفس الشارع بالقرب من قصر القبة.
[vi] "في أواخر عام 1961 قام النظام بالدعاية الصاخبة للاشتراكية وتطويعها لتعاليم القرآن، وقام رجال الدين المسيحى بتفسير العلاقة بين الاشتراكية والمسيحية، وقد تمت هذه التفسيرات على الرغم من أن التأميمات التى قامت بها الحكومة قد قضت على عدد كبير من الأعمال والصناعات التى كانت للأقباط سيطرة فيها، ففى قطاع النقل شركات الأتوبيس داخل القاهرة وبين الأقاليم كانت خسارة الأقباط 75%. حيث أممت شركات إخوان مقار والأسيوطي وأبو رجيلة وحكيم مرجان، كذلك أممت مصانع وبنوك عديدة ونزعت قوانين الإصلاح الزراعى ملكية آلاف الأفدنة من عائلات قبطية مثل عائلات دوس وأندراوس وويصا وخياط. وكان لارتكاز عبد الناصر على الخطاب الدينى وحشو خطبه بالآيات القرآنية أثر كبير في ازدياد المد الدينى، فهو لم يرجع القرارات التأميمة لماركس، بل أعلن أن الرسول محمد هو أبو أول اشتراكية. ومسايرة للنزعة الدينية، بدأ الاعتراض على الوظائف العليا التى كان الأقباط يشغلون 90 في المائة منها، وأصبح عامل الدين يأخذ فى الاعتبار عند التعيين في الوظائف المدنية حتى لا تطغى الأقلية على الأغلبية، وبناء على ذلك أصبح هناك وظائف ومواقع لا يقترب منها الأقباط، ومثال على ذلك كانت نسبة الأساتذة فى كلية الطب من الأقباط تصل إلى 40% تدهورت حتى وصلت إلى 4%، وإلى جانب ذلك جعل عبد الناصر الدين مادة أساسية فى مختلف مراحل التعليم، وجعل الجامع الأزهر جامعة وأدى إلغاء عبد الناصر للأحزاب إلى اختفاء حزب الوفد، فانتهى بذلك دور الأقباط في الحياة النيابية وتبنى عبد الناصر سياسة التعيين، وأصبح للأقباط عدد محدود من وزارات التكنوقراط بعيدا عن الوزرات ذات السيادة" –كتاب الأقباط في الحياة السياسية من تأليف سميرة بحر وعلي أحمد عبد القادر

[vii] حوار مع عادل حمودة في مجلة روزاليوسف، 28 أكتوبر 1996.
[viii] شهدت الزيتون 3 حوادث عنف ذات توجيه ديني، واحد منها خلال التوتر الطائفي الكبير في التسعينات، وكان يحمل صبغة طبقية انتقامية واضحة باستهداف سرقة متاجر الذهب المملوكة للأقباط، ثم حادث مماثل بعد مرور أكثر من عقد في 2008، ثم تفجير سيارة أمام كنيسة العذراء في 2009 لم يتم كشف غموضه إلى الآن مثل حادث التفجير الدموي لكنيسة القديسين بالإسكندرية. يتضح أن التوتر لم يتحول أبدا إلى أعمال عنف طائفية جماعية مثل ما شهدته مناطق عين شمس، إمبابة ومنشية ناصر خلال عام 2011 وحده. وترتبط حوادث الزيتون أساسا بضعف تواجد الدولة، خاصة في الزيتون الغربية الأكثر فقرا وازدحاما. لقد فوجئت وزارة الداخلية بتفجير السيارة المفخخة أمام الكنيسة وكذلك ضباط قسم الشرطة الذي يبعد عدة مئات من الامتار عن موقع الحادث، وبعدها مشطت الوزارة الضفة الغربية للزيتون وألقت القبض على 1250 هارب من تنفيذ أحكام بالإعدام والسجن (الرقم الضخم قد يكون مبالغة من الوزارة في محاولة منها لطمئنة أهل المنطقة)، الحادث ككل وتوابعه يدلان على أن تلك الضفة كانت تتمتع بما يشبه الاستقلال عن الدولة، وبتكوينها كانت منطقة ساخنة طائفيا.

No comments:

Post a Comment