Saturday, September 3, 2011

جيولوجيا إنسان الزيتون الأول

يجري مترو الأنفاق في خط موازي تقريبا لنهر النيل رغم بعده عن المنطقة، ليقسم مستوطنة الزيتون إلى زيتون شرقية وأخرى غربية، وعلى عكس العالم الحديث، فإن جزئها الشرقي هو الأكثر حداثة وأناقة لاقترابه من شارع جسر السويس الذي يفصل الزيتون بحدة عن مستوطنة مصر الجديدة الأكثر رقيا (الكثيرون من أهل الزيتون يرون أن مظهر الارتقاء الاجتماعي الوحيد هو عبور جسر السويس في اتجاه مصر الجديدة أو مدينة مصر، أو ما بعدهما من المستوطنات الصحراوية)، أما الزيتون الغربية فهي أكثر احتكاكا وتداخلا مع أحياء المطرية والسواح التي بُنيت على ملكيات فردية صغيرة (عمارات أهالي) تسببت في تقسيمها لحارات وأزقة فقيرة، وبعضها يمكنك أن تطلق عليه.. عشوائيات.
وتتضافر الجيولوجيا مع الاقتصاد في نفس الاتجاه، فطبقات الأرض السطحية تنخفض في اتجاه الغرب، مما يمنح مصر الجديدة ميزة الارتفاع، وتنخفض الأرض كلما اتجهنا غربا تجاه النيل، وتنخفض معها كل مقومات الحياة تدريجيا (فارق الارتفاع يجعل بالوعات المياه في الزيتون تنفجر لتطلق نافورة ارتفاعها متر كامل في الأيام الممطرة، وهذا لأن كل المياه المنصرفة بشبكة الصرف في مصر الجديدة تتجه مع الانحدار غربا لتزيد الضغط هناك). ويبلغ هذا الانخفاض في مستوى الحياة أدنى درجة له عند خط قطار الوجه البحري على حافة حي الزاوية الحمرا، ثم ينعكس التوجه على الناحية الأخرى من خط القطار، فتتحسن الحياة تدريجيا في حي شبرا، حتى تصل لأفضل ما يمكن عند أبرج أغاخان على النيل.
تسبح الزيتون فوق بحيرة من المياه الجوفية التي يأتي معظمها من مياه الأمطار التي لا تستوعبها شبكة الصرف، وتتكفل التربة الرملية بامتصاص هذا الإيراد المائي، تلك التربة كانت مناسبة جدا لمزارع الزيتون التي اشتهرت بها المنطقة وحملت محطة القطار اسمها (حدائق الزيتون).
لا تصنع أشجار الزيتون حدائقا بذات المعنى الفردوسي الذي تعدنا به الكتب السماوية، فلكي تستطيع شجرة الزيتون أن تتحمل قلة الأمطار، يجب أن تنشأ كل واحدة منها على مبعدة من الأخرى، لكي تستأثر بأكبر قدر ممكن من الماء وتتفادى الآفات (وهي صفة ستنتقل لمستوطني المنطقة فيما بعد)، وإمعانا في الاستفادة من كل قطرة بهذا الماء، لا تبالغ الشجرة في توليد الأغصان وتكسي نفسها بأقل قدر من الأوراق.. وكلما تقزمت كان نصيبها أفضل في الحياة.
كانت تربة المنطقة مثالية لمثل هذا الزرع، فهي تربة مفككة سهلة التهوية، وغنية بكربونات الكالسيوم (المهمة جدا لنمو الزيتون) التي تنحدر بها مياه الأمطار من هضبة المقطم والقطامية في الشرق.
لقد أتى الزيتون بالإنسان وليس العكس، فهذا أسهل زرع في التاريخ، ويقبل عليه عربان الصحراء الذين يحتقرون العمل بأيديهم ويفضلون ترك الأمطار تتزاوج مع التربة في أملاكهم التاريخية، انتظارا لنضوج الثمر الذي سيجمعه الأطفال والنساء والأجراء.
ولا يوجد الآن أي أثر لهؤلاء العربان في حي الزيتون، لقد أغرقهم الفلاحون بالنسل وروائح طبخهم، لكن العربان تركوا أسماء بطونهم وأفخاذهم على شوارع منطقة "سراي القبة" في الجنوب الشرقي، حيث التربة أكثر صحراوية لتناسب مزاجهم العدمي، حتى قام الخديوي إسماعيل ببناء قصر القبة فأزاح مضاربهم شرقا نحو الأرض المرتفعة، ثم امتد خط القطار ففصل بينهما، ومن وقتها وإلى نهاية التاريخ سيصير هذا الخط فاصلا بين السلطة ومضارب الخيام، بين المدينة والريف، وبين قرن آت وآخر فات.
وربما في نفس زمن انقراض العربان، اختفت الترعة الوحيدة من المنطقة، وكانت محاذية لخط القطار كما اقتضت التقاليد دائما، وحملت اسما غريبا هو "ترعة الجبل". سر الغرابة هو أنه لم يكن هناك جبل تنحدر منه الترعة، ولا الماء يطلع لأعالي الجبال، ورُدمت الترعة وتركت مكانها شارعا يحمل نفس الاسم يبدأ بالقرب من قصر الزعفران (قلب جامعة عين شمس الآن) وحتى حي المطرية الذي كان في الماضي القريب بركا ومستنقعات.
انتهى زمن العربان والزيتون باستحكام العسكر في المرتفعات الشرقية فأصبح الأولون محاصرين من الجهتين، ثم جاء البارون إمبان فأغلق ما بقى من سبيل لهم للصحراء الحبيبة، وبنت الامبراطورية البريطانية سجنها الحربي في الشمال وسكن عسكرها ومبشروها من حوله، ثم اتبعهم التابعون كما هو في كل أزمان المحتلين، فصارت الزيتون الشرقية نسخة شعبية من وسط البلد، وظلت الغربية ريفا فقيرا استوطنه الفلاحون ثم تبعهم صغار الموظفين الذين هاجروا حديثا للعاصمة، وبين الشطرين ظل شريط القطار حاكما للأنواع وفاصلا بينها، ولم يتبقى من الحدائق إلا لافتة قديمة من الجبس تحمل اسم المحطة، وصمدت اللافتة كشاهد قبر حتى عهد مترو الأنفاق عندما أزيلت في أعمال التحديث التي لا تنتهي.